زمرة الأدب الملكية

ما أكثر الأقلام إن فتشت محصيها،، فيها العلم وجلها غثاء من حطب،، وريشة الفهم إن جئت تطلبها،، فدواتها نحن عرين زمرة الأدب..

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

تذكية... قصة قصيرة... بقلم:أ.رئبال الدمشقي

تذكية 
قصة قصيرة
بقلم:أ.رئبال الدمشقي



بعد أن طلقها التطليقة الثالثة وبانت منه البينونة الكبرى، آيس البعل من أن يرجعها على ذمته، بعد أن طاف على جل المشايخ، كما أنه لم يترك مفتيا أو فقيها إلا واستفتاه، فكان الرد بأن لن تحل له حتى تنكح رجلا غيره.
كم هو صعب ذلك التصور، وكم هو مستفز بأن ترى من أحببتها وتزوجتها مع رجل غيرك؛ هذا ما كان يلقنه إياه صديقه الحميم المقرب عندما يأتيه في كل يوم مواسيا ومعزيا.
وذات مساء غير ببعيد عن تلك الواقعة، وفي حين كان يتلو صديقه عليه أن "أبو صبيح المنخور" صاحب (طنبر المازوت)1 والمعروف بلقبه"الجاعور" لكثرة صياحه وهو يدور في الأزقة مناديا يبيع الكاز والمازوت؛ عازم على أن يتقدم لخطبة زوجتك بعد انقضاء عدتها، ثم قال مسترسلا: هذا ما أسره لي "أبو نجيب دحروج" صاحب دكان تبييض الأواني.
فما كان منه إلا أن نهض حانقا وقال: سأجد من يرجعها إلي مهما كلف الأمر.
فتبسم صاحبه ثم نفث ببرود من بين بقايا أسنانه مافي صدره من دخان عقب سيجارته وقال: 
إذن ليس لك إلا أن تذهب للشيخ"بيضون" كبير الطريقة العصماء وراعي الحضرة الأمثل، فهو الدرويش الزاهد، وليس لأي شيء مهما كان معقدا، إلا وله عنده فتوى، كيف لا وهو إمام المجاذيب في منطقته كلها.
وفي صباح اليوم التالي توجه البعل الحائر إلى الشيخ"بيضون" آخذا بنصح صديقه المقرب، و ذي العقل المجرب.
وحين وصل مكانه وسأل عنه، قال له الدال: ستجده في بيت عزاء فلان الفلاني، فاليوم يقيمون له أولاده "وضيمة" لأربعينيته.
فلما جاءه وقص عليه القصص؛ قال الشيخ"بيضون" لاتخف، لقد نجوت من صاحب(الطنبر) وسترجع إليك إن شاء الله وتعود مع الآمنين.
انتهى الشيخ"بيضون" من طعامه ولعق أصابعه العشرة من الدهن مستنا ثم قال للبعل السائل: إذا ما حل وقت السحر فانوِ يوم غد صائما، وإن كان الضحى استغفر الله عشرة آلاف مرة، ثم اشترِ كبشا أملحا واذبحه تقربا وتوبة، وليكن لحمه على صفائح أقراص عجين رقيق، عند خباز تنور ماهر، ليكثر العدد ويطيب المطعم، ونحن عندك من غدنا بإذن الله لمفطرون.
رجع البعل فرحا مستبشرا ومؤمنا بأن لافقه يوازي فقه العلامة"بيضون" إلا أن هناك غصة بائنة تلوح على جبينه، فعليه أن يجد كبشا لايقل عن مائة كيلو كما أوصاه شيخه وهو هامٌّ بالرواح، وألا ينسى أن كتفه اليسرى صدقة يدفعها للشيخ "بيضون" حيث هو من سيتكفل عنه بتوزيعها لدرويش.
ليس هذا فقط، فالبعل من أصحاب الدخل المحدود جدا، ولايمتلك ثمن هذا الذبح العظيم.
استقبله صاحبه الوفي عند عودته وقال له بشّر؟!
قال البعل الفرح الكسير: نعم.. خير مادللتني وفعلت، ليت كل الشيوخ  كمثله، إنه بلا شك قد أوتي بركة وتبصرا ولكن..!
قال صاحبه لكن ماذا؟!
فحكى البعل لصاحبه عما أوصاه به، وذكر له عجزه عن ثمنه وهو العارف به.
أطرق الصاحب الوفي قليلا برأسه نحو الأرض وهو جالس على آليته مسندا ظهره على الحائط، ولف بيديه رجليه محتبيا نحو صدره وطال صمته، ثم أخرج كعادته صفيحة معدنية من جيب سرواله، هي علبة التبغ خاصته، ووضع ورقة بين إبهامه وسبابته، وأخذ يضع التبغ الجاف المنقى في وسطها وينظمه بارتصاص وهدوء، ثم بدأ يلفها باتقان ويسر، ثم أخرج لسانه يلعق طرفها الأخير ليلصقه بمحبوبته، ثم أغلق جهتها الغليظة من فوق، وقضم أسفلها بنصف سنه الأمامي القاطع المكسور، ثم وضعها بين شفتيه جهة اليمين، وأخرج عود الثقاب بلا علبة، فحكه بالحائط بخفة سريعة فاشتعل، فأوقد سيجارته وأخذ منها نفسا عميقا ثم زفر تنهيدة دخان وكأنها تفاريج هم صاحبه وقال؛ كل نفس ذائقة الموت. 
قال البعل الكامد لصديقه؛ آلآن وقت هذا.
فقال له صاحبه وهو يضحك: اذهب ونم قرير العين، وافعل ما أمرك به "البيضون" فإن كان الضحى، اذهب واحجز فرن خباز لكبشك، ثم وافني داري وخذ كبشك مذبوحا مفصلا.
فتح البعل فاه بدهشة ليتكلم، فسد صاحبه فمه بأصابعه وقال: كما قلت لك، دون أي كلمة، ولكن هل سألك "البيضون" عن كبد وأحشاء الخروف شيئا؟
قال البعل: لا..
فتبسم بخبث وهو يغمز له، إذا ستكون نصيبي.. 
هيا اذهب وكما اتفقنا.

وفي مغرب اليوم التالي، كان البيت قد عمر بالضيوف، بعضهم من أعيان أهل الزوجة وأعيان الحي، وبعضهم  أتوا مع الشيخ "بيضون".
وضع الطعام وافترشت المواعين والصحون بأقراص صفائح اللحم بالعجين، كانت مرتبة أنيقة ساخنة، حيث صفها الخباز الذي أعدها ووضع الوجه على الوجه، والقفا على القفا، لتحافظ على سخونتها وكي لايسيل دهنها على القفا، وتبقى مقرمشة محمرة؛ مما جعل الشيخ"بيضون" يشيد بخبرة الخباز، وأن أحسن البعل اختياره لكليهما.
كانت الناس تأكل قرصا قرصا، إلا الشيخ الذي تصدر كان يدخل في فمه قرصين قرصين، فأراد صاحب البعل ممازحته فقال للشيخ؛ ألا توتر ياشيخنا في أكلك فرادى؟
فقال الشيخ بعد أن فرغ من مضغ القرصين؛ إن فمي لايتسع لثلاث.
ضحك الجمع وأثنوا وزادوا تورعا في محبة الشيخ وفطنته وذكائه.
وبعد أن انتهى الطعام أمر "البيضون" بأن تقام 'حضرة ذكر' وأن بعدها يرتحلوا ويحضر البعل زوجته بعد مشهد هذا اليوم المبارك.
وأثناء الضرب على الدفوف، وبينما الناس تلتوي وتهتز وترتعش قافزة من كثرة الخشوع، صاح "الجاعور" لقد سرق حلالي.

تمت..

(الطنبر) هو الصهريج الصغير الذي يوضع على عربة نقل يجرها بغل أو جحش.
ويعرف العامل عليه (بالطنبرجي)
حيث يبيع متجولا بين الأزقة النفط والكاز للبيوت.


عن الكاتب

زمرة الأدب الملكية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

المتابعون

Translate

جميع الحقوق محفوظة

زمرة الأدب الملكية