زمرة الأدب الملكية

ما أكثر الأقلام إن فتشت محصيها،، فيها العلم وجلها غثاء من حطب،، وريشة الفهم إن جئت تطلبها،، فدواتها نحن عرين زمرة الأدب..

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الحديث اليومي _ بقلم: أ. ربيع دهام


 




(الحديث اليومي)


******


" ليتني كنتُ مكانك يا صديقتي. فصقيع هذه الوحدة الباردة يقتلني.

كل صباحٍ يأتِني صاحبُ البيت مع غِنائه الذي لا أفهم منه شيئاً،

وعينيه الذابلتين المغمّضتين، وخدّيه المتورّمتين ، فيغسل وجهه أمامي ، ولا يعيرني انتباهه ونظراته إلا عندما يشذّب ذقنه ، ويُفرشي أسنانه ،

ويعيد بناء تسريحة شعره المفضّلة.

وبعد انتهائه من عدة شغله اليومية ، يتركني ويرحل.

فأركن أنا  مثل شاهدة القبور في مكاني. الجدار ورائي والجدار أمامي.

وبعناءِ أمٍ رحل إبنها إلى جبهة القتال ، أجلسُ كل يوم منتظرةً عودته الميمونة.

فأمضي الثواني والدقائق والساعات وحدي.

لا وجهاً أراه. لا كلاماً أسمعه.

لا شهيقا. لا زفيرا.

حتى خرير المياه محرومة من سماعه.

التلفاز بعيدٌ. لا هاتف نقال بيدي أتسلّى به. لا كمبيوتر.

لا عقارب ساعةٍ ألاحقها . أعد تكتكاتها ، أو  ألعب معها لعبةَ "اللقيطة" الجميلة، علني أقتل بها الوقت قبل أن يقتلني.

والشبّاك!

آه الشبّاك.

كم أغار منه.  على الأقل هو يرى بوضوح المارة والسيارات تصول وتجول أمامه . ويشاهد أوراق شجرة المانغو وهي تهتز مع الريح.

ويراقب العصافير تدنو على أغصانها وتطير.

أنا لا أراها من هنا بشكل واضح . بل أسمع زقزقاتها من بعيد وأسعد.

ويطول فرحي لثانية ، لثانيتين ، وفي أطول الأحوال لدقيقة ، قبل أن يغيب  مع الريح ويرحل.

كم سئمتُ هذه الحالة يا صديقتي.

حتى نهار الأحد ، الذي غالباً ما كنتُ أنتظره، قد خذلني بدوره لمّا

صار صاحب المنزل يخرج مع أصدقائه إلى الصيد أو البحر، ويتركني هنا ، مع عدّةَ خيبتي اليومية.

سندان الوقت ومطرقة الإنتظار وعدّاد الخيبة.

نهار الأحد بالنسبة لي أمسى مثل نهار الأثنين. ونهار الأثنين مثل الثلاثاء.

سجينٌ أنا أرسم خطاً بالطبشورة لمروركل يوم . ومن عدد الخطوط أعرف عدد الأيام.

ويوم الثلاثاء مثل  الأربعاء. والأربعاء مثل الخميس.

عنقٌ أنا التَفَّ حوله حبل المشنقة ، فراح يصلّي لقدوم موته الرحيم ، لأن الموت في هذه الحالة ، أفضل من الإنتظار.

ما رأيك؟ أتسرّك حالتي يا صديقتي؟

ليتني كنتُ مكانكِ فأتحرّر ، لكني أشكر الله أنكِ لست بمكاني كي لا تذوقي المر الذي أذوقه كل يوم ".

أجابتها صديقتها :

" آه كم أحتاج لنعيم الوحدة مثلك . كم أنشد الملل والضجر. بل كم أحسدك يا صديقتي على عيشةٍ هذه.

على الأقل أنتِ لديك شبّاك وتسمعين بين الفينة والأخرى زقزقة عصفور.

أنا يقتلني ، بل يكاد يغرقني ، خرير المياه المتواصل.

أشعر بطعنة سكين كلما فُتِحَ صنبورٌ وغُــلِـقَ أخر.

أختنق من روائح السجائر والفشار والطعام ورغوات الصابون على الأيادي.

يقشعر بدني من صوت تلاطم النعال بالرخام.

هو صوتٌ مزعجٌ كاحتكاك طبشورة وصبّورة.

قد تضحكين عليّ. قد تعتقدينه صوتاً عادياً. حسناً.  تعالي إذن إلى هنا واسمعيه. اسمعيه ألفَ مرة في اليوم وستكتشفين قصدي.

ألم تقرأي عن وسائل التعذيب والقطرات المتدلية من الحنفيّة في السجون؟

لو أتيتِ إلى هنا ستعرفين.

ستضيعين بين الوجوه الوافدة والراحلة.

وجه بسحنةِ عصفور يخرج ، ووجه يشبه التمساح يدخل.

جسد نحيل بالكاد أستطيع تبيانه ، وجسد يفوق عرضي عرضاً.

فمٌ يتكلم على الهاتف بغضب. يزعق. يصرخ. مالِك الفم يشتم  مالِك شركة الإتصالات لانها لم تلتقط ذبذبات الجوّال.

باللهِ عليك. ما ذنبي أنا؟!

وهل صارت تلك الأماكن مراكز اتصالات واستعلامات أيضاً؟

ولا تنسي ذاك الذي راح يحدّق بي ببلاهة.  يرش الماء على شعره.

يهم بالخروج. ثم يعود. لم تعجبه تسريحة البرمائية.

يفتح الصنبور مجدداً. يرش بعض الماء على شعره. يهندمه بيديه.

ينظر في المرآة. ثم يهم مرة آخرى بالخروج.

ويكاد يمسعني أقول له : "إرحل ...بالله عليك إرحل" .

لكنه يعود. وبكل أسفٍ يعود.

حتى أن صديقتي في المكان المقابل أخبرتني ، حين التقينا يوماً ، عن المآسي التي تحصل أمامها كل يوم ، وعلى مدار الدقيقة.

يا إلهي. تكاد تقتلني بحكاياتها عن أحمر الشفاء ، وروائح العطر،

والمكياج ، وربط وفلت الشعر.

تقول لي أن أكثر ما تمقته في عملها هو إلزامها بلعب دور المقلّد.

فلو ضحك وجه وجب عليها أن تضحك.

ولو عبسَ عبست. ولو اقترب منها وحدّق ، اقتربت منه وحدّقت.

ولو رفع حاجباً وأرخى الآخر ، فعلت مثلما فعل.

آه كم أحسدك على حياتك الهادئة والمنعزلة يا صديقتي. ويا ليتني.

يا ليتني أكون مكانك . لكني أشكر الله أنك لستِ فمكاني كي لا تذوقي ما أذوقه كل يوم ".

ومن هنا ، في محل التصليح ، حيث التقيا  لفترة وجيزة ، ودار بينهما هذا الحديث، ودّعت مرآة حمّام المنزل مرآة حمّام المول، كل يحسد الآخر على حاله.



******


(ربيع دهام)

















عن الكاتب

زمرة الأدب الملكية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

المتابعون

Translate

جميع الحقوق محفوظة

زمرة الأدب الملكية