« من أوراق الذاكرة »
إعداد وتقديم: أ. جمال الشمري
تنسيق وتوثيق: أ. سامية عبد السعيد
••••••••••••••••••••
عُقاب...
******
كان والدي رحمة الله عليه يعمل ضمن كتيبة الفدائيين والتابعة لكتائب الشهيد "مصطفى حافظ" بالصفوف الأمامية للجيش المصري وذلك إبان فترة الزعيم الراحل "جمال عبد الناصر" وإثر الهزيمة التي حاقت بعدة دول عربية في عام ١٩٦٧م واحتلال كل من سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان؛ هاجر والدي إلى مصر بعد أن خلَّف وراءه كل ما يملك...
جاء مولدي في الثاني عشر من يناير عام ١٩٦٩م (لذا أنا أعشق الشتاء)
وقد كان ترتيبي العاشر بين أخوتي من أصل أربعة عشر.!
والأول مولدا بجمهورية مصر العربية لأصبح الاجئ المدلَّل لأهل والدتي المصرية.
والتي كانت دائما ما تكرر لي تلك الرؤية لوالدي حينما رأى طائر العُقاب يحلق في السماء وكلما همَّ باصطياده ببندقيته يظهر له ذلك الشيخ ذي الجلباب وينهاه عن ذلك بقوله:
(هذا ولدك).
وفي إحدى الليالي على ركلة مني في ظهره (مازلت جنينا في الرحم) يستيقظ ليخبر والدتي:
(في بطنك صبي وسأسميه "عُقاب" ولكن ومع اعتراض والدتي الطيبة على صعوبة الاسم يصلا إلى ذلك المسمى "صقر"
بمراحل الطفولة المبكرة كان الصَّقرُ يمثل عبئاً ثقيلاً على كاهلي فقد كان الصبية وزملاء الدراسة بالمرحلة الابتدائية دائما ما يتنابزون حوله بالألقاب فتارة "غراب" وأخرى "حِدّاية" (اليوم علمت أنهم كانوا يتنمرون عليّ) فلم يكن ذلك المصطلح معروفا حينها للدرجة التي كنت أخجل فيها من اسمي.!
ابنة القلب
**********
الثالث من يوليو عام ألف وتسعمائة وسبعة وثمانون...
السن سبعة عشرة عاما. شاب مقبل على الزواج بابنة عمه "وداد" التي تبلغ من عمرها السادسة عشر ربيعا.
حقيقة الأمر لم يستوعب عقله الصغير آنذاك تلك الفكرة فقد كان زواجهما يندرج تحت ما يسمى الزواج التقليدي أو عطية أب كما يدعونه.
أقاما بشقتهما الصغيرة بدار العائلة القاطن بحي المرج تلك المنطقة الشعبية التي يغلب عليها الطابع الريفي. يتناول وجباته وزوجه ببيت العائلة من يد أمه ويتحصل على مصروفه من جيب أبيه وقد كان على أبواب الجامعة بالصف الأول لكلية التجارة، ويحمل على كتفه ابنته البكر "حنين"
عين الحسد والغيرة تلاحقه من زملاء الدراسة حينما يصطحب "وداد"
إلى الجامعة، تلك الفتاة التي لو نظرت لوجهها فإنك لا محالة سترى المارين خلفه.
شفافة، رقراقة، ناصعة البياض، وكأن آشعة الشمس تستمد منها نورها.
اليوم أقف على العتبة الرابعة والثلاثين من الزواج. قد يكون الزمان أكل مني وشرب وترك بصمته من أخاديد ونقوش لريشة فنان يسرق تلك الألوان المبهجة من وجهي، ولكنه أبداً لم يعبثْ بذلك الوجه لتلك الفتاة، الفاتنة والتي تحتفظ بشبابها وتمدنا جميعا بطاقة الحياة أنا وأبنائي الخمسة وأربعة أحفاد وخامسهم يطرق أبواب الدنيا لمغادرة رحمه.
أشهد الله لو أن الزمن تعود أيامه فلن أستبدل تجربتي معك ولن أختار زوجة بديلة وكيف لي هذا وأنت اختيار الرب؟
فأنت امرأة جعلك الله سكنا ورحمة
لا يسرني النظر إلا إلى وجهك ولا تحط رحالي إلا بوكرك.
الرَّهينة
********
العام ١٩٩٠م كان الأسوء على كل ما هو فلسطينيّ فكونك لاجئاً فأنت رهن السياسة الدولية والتي تختلف من دولة لأخرى.
في ذلك العام كان احتلال الكويت من قِبل العراق (٢ أغسطس).
وكان اغتيال "رفعت المحجوب" رئيس مجلس الشعب المصري (١٢ أكتوبر).
وكانت أصابع الاتهام ووسائل الإعلام والرأي العام كله منقلباً ضد الفلسطينيين.
وكان اعتقال أخي "إسماعيل" لمدة ١١ شهر إعمالاً لقانون الطوارئ وترحيله إلى ليبيا. والتُّهمة،
(الإخلال بالأمن العام، ودعم الانتفاضة الفلسطينية بما يؤثر على العلاقات مع دولة صديقة).!
مزامنة مع تسلل أخي الأكبر "إبراهيم" وهو رئيس الجناح العسكري بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إلى داخل البلاد ودخوله مصر بطريقة غير شرعية.
فكان اعتقالي ووالدي من قبل أمن الدولة كرهائن لحين أن يسلم أخي نفسه (على حد قول ضابط أمن الدولة).
ويستمر احتجاز والدي تسعة أشهر كاملة بمعتقل "أبي زعبل" لتفرج عنه السلطات المصرية بعد أن نشرت الصحفية "أمينة السعيد" بمجلة آخر ساعة تناشد رئيس الجمهورية "محمد حسني مبارك" ووزير الداخلية "محمد عبد الحليم موسى" بأن هذا الفدائي والمناضل "محمد حبوب" في نهاية عمره يجب أن يكرَّم لا أن يعتقل ويحتجز كرهينة على جريمة لم يرتكبها.
غضنفر (١ أغسطس ١٩٩٣م).
********
وهو الاسم الحركيّ لوالدي
اُعْتصر الزيتون ونهب الزيت
ونضب الماء في غياهب الصمت
فجفت الأشجار واحتضرت على عتبات البيت
وددت أن أرويها بدمي
فأبت إلا أن تذكرني بوجه أمي
الأوراق الذابلة حزينة على فراق أبي
فأنستني براءة الأطفال في وجهي.
~ تجربتي مع كورونا ~
في ليلة العيد كانت البداية حيث بدأت الأعراض تظهر على زوجتي (كحة ناشفة وارتفاع في درجة الحرارة وشعور بالإرهاق وضيق التنفس والشعور بالقيء)
بغرفة الطوارئ بأحد المستشفيات الخاصة وبعد التأكد من ارتداء الكمامة والجاونتي حضر دكتور شاب يرتدي كمامتين ويقف على بعد مترين ليسأل عن شكوى المريضة والأعراض التي تعاني منها ثم ينسحب مسرعاً، مضطرباً من الغرفة عندما علم بفقدانها حاستي الشّم والتذوق.!
خرجتُ مسرعاً خلفه لأسأله:
- طمني يا دكتور
فجاء رده :
- الموضوع يخوف.!
فقلت له :
- كورونا يعني؟
- مش ممكن يكون دور برد عادي؟
فقال بنفس الطريقة:
- فيفتي فيفتي!
- طيب يا دكتور حضرتك لم تكشف عليها ولم تقيس ضغطها أو حرارتها ولم تكشف على حلقها أو تضع سماعة على صدرها أو ظهرها.!
تفاجأت برده الحاجات دي كلها ملهاش لزوم.! ههههههههه
سألته :
- طيب والعمل؟
قال لي :
العزل التام في المنزل والمهم إللي جاي وكتب لها روشتة علاج تحتوي على (بانادول ومضاد حيوي وفيتامين سي)
توتر هذا الطبيب الشاب قليل الخبرة وضعنا في موقف عصيب من الناحية النفسية، عدنا إلى البيت وكأن الطير تأكل من رؤوسنا.
على الفور أمرت أولادي وبناتي بمغادرة المنزل وأعددت غرفة النوم الرئيسية وبها حمام مستقل للعزل.
درجة الحرارة دائما فوق معدلها الطبيعى والكحة تزداد سوءً.
أقمتُ في غرفةٍ مستقلة وابني الذي رفض مغادرتنا في غرفةٍ أخرى.
اتصلتُ بصديقٍ لي يعمل بإحدى الشركات الكبيرة للأدوية والذي قام بإعطائي رقم تليفون طبيب (د. محمد أصبح) وهو مصاب كورونا وتم تعافيه منها وكان يقيم بالمملكة العربية السعودية وعالج نفسه بنفسه، عن الطبيب أتحدث.
اتصلت به فحضر الساعة الواحدة والنص من بعد منتصف الليل وكشف على مريضتنا وطلب عمل تحاليل دم وهي
وأضاف لها الدواء التالي وقال هو مضاد للفيروس (ب ك ميرز)
بدأت الأعراض بالظهور عليّ ولكن يجب أن أكتم سرها حتى أظل واقفا على رعاية شريكة العمر. طلب أولادي بابتعادي عن المنزل خوفا من الإصابة لكبر السن (٥٢ سنة) ولكنني رفضت تماما وكنت على ثقةٍ بأن ما يصيب الزوجة لا محالة لن يخطيء زوجها.
في إحدى الليالي داهمتني الأعراض بقوة فدخلت إلى غرفتي وغلبني النوم ولم أستطع القيام حتى للصلاة وفي الصباح اتصلت على الدكتور فنصحني بأخذ العلاج ومراقبة التطورات التي ستحدث.
ثم بدأت الأعراض في الظهور على ابني ومنه انتقلت لزوجته وعلى ابنتي ومنها انتقلت إلى زوجها.
الليل بالنسبة لمصاب الكورونا قاسٍ، مؤلم فعندما تستسلم دون حول لك ولا قوة تبدأ الحروب الداخلية للمناعة ضد الفيروس وهجومه الشرس. تشعر بكل شيء وكأنك تراه بعينيك ولكن لا تعلم ما الذي يحدث.
الآن فقدان تام لحاستي الشم والتذوق لم نكن نعلم بقيمة تلك النعم البسيطة من قبل للدرجة التي ينبهك بها حارس العقار أن هناك تسربا للغاز تملأ رائحته العمارة ونحن الثلاثة لا نشعر به رغم وجودنا وسطه.!
ويأتي الليل بقسوته لتجتمع عليك كل الأفكار السوداوية بالتفكير فيما يخبئه المستقبل والتوتر الشديد من حدوث انتكاسة صحية لأي من المصابين من حولك والاعتماد على الذات فقط دون أن تمد لك يد العون من طبيب أو مستشفى فكل ما في الأمر هو أن تلازم بيتك وذلك الحجر حتى يأتيك الله بالشفاء أو يرسل لك الملك الموكل بالموت.
ومن عجائب الأمر وتلاعب ذلك الفيروس بك هي تلك الفترات التي لا تشعر بها بأي شيء وحقيقة الأمر والتي لم يتحدث بها أحد من قبل فإن ذلك يعود لضربه كل مراكز الإحساس بجسدك فكل الأعضاء وكأنها مخدرة حتى أن المياه ليس لها التأثير المعتاد على جلدك. هي فترات من الصلابة والقوة الكاذبة المضللة.
من المختبر أتى طبيب لسحب عينة الدم لعمل التحليلات المطلوبة.
نقص في الهيموجلوبين مع سرعة في التسريب هي مؤشرات بإيجابية وجود الفيروس في الجسم. كذلك كانت النتائج إيجابية بعد مرور اليوم الأول من العلاج.
بقى ٤ أيام وسنعاود الكرّة مرّة أخرى مع تلك التحاليل ونتائجها والفترات العصيبة من الانتظار والقلق والتوتر.
حالة من الذبول التام وعدم المبالاة أو التفكير في أي شيء، استسلام لا إرادي حتى أنك لا تعلم بأي يوم أنت أو تاريخه.
تمر الأيام ثقالا لتضرب بكل الإجراءات الوقائية عرض الحائط فقد وصل الزائر واخترق كل التحصينات وما عاد يجدي الكحل أو الكلور أو القفازات والكمامة في شيء.!
فقط تأرجح بين قوة وصلابة كاذبة وبين ضعف ووهن بيّن.
الآن تمتليء صفحات دفتري بأسماء أسرتي المصابين
(ثمانية أشخاص مع ثماني صفحات لكل يوم)
أدون بكل صفحة درجات الحرارة وقياس الضغط والأدوية ومواعيدها مع التركيز الشديد بكل اسم وصفحة فقد اختلفت الأعراض فيما بيننا فالبعض تهاجمه الكحة والصداع وتكسير العظام والبعض إسهال وخمول عام والتهابات الحلق وارتفاع في درجة الحرارة والبعض الآخر فقدان حاستي الشم والتذوق.
والجميع يجتمعون في فقدان القوة والشعور بالضعف وفتور العزيمة.
دون علم من حولي تحدثت مع قريب لي بأن يجهز مقابر العائلة وأن يكون على أتم الاستعداد نظرا للوضع العام الذي تمر به الدولة ولم أصرح له بحقيقة الأمر.
انقطع التواصل بيني والعالم الخارجي، إلا من بعض التواصل الاجتماعي بالعالم الأزرق وبعض المكالمات التليفونية. أتخوف من زيارة أحد أقاربي لنا. لن نستقبله ولكن هل ندعي السفر؟!
أكثر ما ساعدنا هي تلك القرارات بحظر فتح المحال التجارية وفرض الحظر لتمر عشرة أيام دون أن يشعر بنا أحد.
اتصال من ابنتي : بابا حاسة الشم رجعتلي.!
اتصال آخر من زوجة ابني : عمي الحرارة راحت وحاسة إني بقيت كويسة.
الزوجة تغادرها الكحة والصداع.
الآن ننتظر نتيجة التحاليل فتأتي بارتفاع نسبة الهيموجلوبين واعتدال سرعة الترسيب في الدم.
وعلى صوت د. أصبح :
(مبروك يا بيه الحمد لله الفيروس ما قدرش يكسر الخلايا وكان من النوع الضعيف) أنتم الآن بخير وأتمنى لكم السلامة.
•••••••••
صقر حبوب