« مواويل أغتراب »
لمست يدي مقبض الباب تراءى لي وجه أمي... ودعته قبل ثلاثين عاما حين احتضتها بكل مخاوفي وشجوني، وهي تشدني إلى صدرها أكثر ودموعها التي اختلطت بدمعي فأصبح مجراهما واحدا، وبكل حنين الأمهات تهمس لي: لاتقلق علينا، امض في طريقك ولاتلتفت، وتذكر جيدا أن جذورك هاهنا في هذا البيت وأن رئتيك لا تتنفسان ولا يطيب لهما هواء إلا هوى بغداد، تأكد أنك سوف تعود...
ركضت ولم ألتفت ورائي أبدا وصوت أبي يرن على مسمعي : في أمان الله وحفظه ياولدي.
التهم الظلام كل الأصوات ولم يبق غير صوت أقدامي الهاربة من الموت الذي كانت تترأسه الفرق الحزبية التي جاءت تبحث عن شاب يصلي في المكان... كنت التقي بمجموعة من الشباب مابين جامعي في كلية الحقوق والهندسة والثانوية، كنت وقتها في السنة الأخيرةفي كلية الطب، نلتقي وقت الصلاة ثم نتحدث بأمور السياسة وحال البلد في ظل النظام... كنا نضطر إلى أن نرسب سنة وننجح في السنة التي تليها؛ حتى نتخلص من التجنيد الإجباري... من حرب لا سبب لها... مهزلة اسمها حامي البوابة الشرقية، لا أرى نفسي غير طبيب أعالج المرضى أحمل شرف المهنة واليمين الذي سوف أقسم به، لا أن احمل السلاح وأقتل...
تأخذني دروب الغربة من بلد إلى بلد وأمتهن الكثير من المهن، نال الجوع والبرد والخوف مني حد التوسل بالمارة فأمحي كل وجودي الإنساني... حصلت على الجنسية...
لم أتذكر شيئا من كل هذه السنين... وبشاعتها عند ذلك الباب... فقط وجه أمي وصوت أبي؛ لأحاكي شقوق الجدار وحكايات الأبواب وأشم روائح الحنين في أقداح الشاي مغموسه بآهات أمي المستمرة كل مامر عليها مواسم الأعياد يشاكسها الفرح دون ملامح
ثلاثون عاما وانأ أبصر أطيافا هامت بين الأركان أفتش عن الوجوه في أسرة خالية من أصحابها
تراقص الهمس حولي،وأنا أراقب والكل يبكي سمعت لغطهم : هاهم أبناؤه من زوجته الكندية إنهم يشبهونه كثيرا
فأنظر الى أختي قد احتضنت الصورة بكل لحظات الوحشة والضيق والشجن
هاهي أشياؤك ياعزيزي... كما تركتها لاتزال في غرفتك دواوين القباني ومحمود درويش وأغاني فيروز وياس خضر وكتب التشريح
رأيت معطفا فارغا استند على الكرسي كأنه مركب وصل إلى المرفأ سرعان ماتزايدت الملابس الفارغة
وجه أمي المبتسم في سلام تقافزت عليه السنون وأبي يحتضنها... تداري خجلها في الصور المعلقة على الحائط
رأيت الطاولة الممتدة أمامي وورقة معنونة بشهادة وفاة وفي خانة المتوفي قرأت اسمي
•••••••
زهراء ناجي