رقم عصي على الكتابة
« قراءة تحليلية »
بقلم: الأديب محمد البنا
لنص « أرواح عالقة »
للأديبة / أمل المنشاوي
...................
النص
« أرواح عالقة »
*********
ثمل، تتعثر خطاه رغم محاولاته المستمرة أن يضبطها، يردد كلمتين يمطط حروفهما تمطيطا( أاااانااااا هاااااوييييييت) يفصلهما عن بعضهما فُوَاقُ يباغته رغما عنه. فتح الباب بعد محاولات عدة فاشلة، ألقى جسده المنهك على الكرسي الذي اعتاد الجلوس عليه، وضع الزجاجة التي لا زالت عالقة بيده المهتزة على طقطوقة صغيرة بجواره، تداخلت صور الإطارات الخشبية الملونة و المثبتة على الحائط أمامه والتي تحوي بداخلها صورا لنساء عاريات يقفن بوضعيات مختلفة، استغرق دقيقتين حتى اتضحت الصورة، ابتسامة ساخرة ارتسمت على شفتيه أخذت تتسع كلما انتقل بعينيه من صورة لأخرى، اختفت سريعا، تبدلت إلى نظرة غاضبة أفاقته عندما وقعت عينه على الإطار الأسود،
انسحاب الخدر من جسده أصابه بقشعريرة، ( ستأتين رغم أنفك) قال بحدة، أجابه صمت ساخر طرفت له عينه اليمنى بعصبية، مد يده والتقط الزجاجة، حاول فتحها، استعصت عليه، عافر معها، جرحت إصبعه، عينه تطرف والصمت يقتله، بكل ما بقي من قوته قذف الزجاجة في الجدار أمامه، استقرت للحظة بين الإطار الأسود الممتلئ بالفراغ، تناثرت شظاياها على الأرض، سال الخمر منها على الحائط راسما قبضة تتسرب من بينها خيوط لاذت بالفرار.
أمل المنشاوي ١٤ مارس ٢٠٢٢
......................
« القراءة »
سال الخمر منها على الحائط، راسمًا قبضة تتسرب منها خيوط لاذت بالفرار...مفتاح النص الرئيس، سبقه تمهيدان ثانويان، أولهما ( الأطار الأسود) وثانيهما ( ستأتين رفم أنفك )..هذه هى مفاتيح النص الثلاثة، بهم تتكشف عقدة النص الغائبة أو لنقل المندسة بين التفاصيل المشهدية للحظة الآنية، وما هى اللحظة الآنية؟..هى ( ثمل يترنح/ زجاجة خمر / صور لنساء عاريات معلقة على جدار غرفة )، وكما أبنا اللحظة الآنية وضمّنا في طياتها المكان، يتبقى لنا الحدث، والحدث بدا لنا غامضًا مبهمًا حتى تجاوزنا قراءة منتصف النص، والذي استهلكته الكاتبة في التأطير للحدث بتجهيز المسرح البصري لاستقباله متكئة على حركة مشهدية (تتعثر خطاه / يردد كلمتين / يفصلهما فواق / فتح الباب / ألقى جسده / وضع الزجاجة / تداخلت الصور / نساء عاريات / الإطار الأسود )..هكذا تم تجسيد المشهدية ببراعة وبأفعال جاءت معظمها أفعال حركية، مضفرة بجمل معنوية شارحة كرتوش لازمة لأحياء المشهد(.يمط / اااااانا هاااااووويت/ الكرسي / يده المهتزة/../..)، لتبدأ بعدها الكاتبة الدخول سريعًا إلى عقدة الحدث ( إطار أسود ) منتجةً في ذهن القارئ سؤالًا حتميًا ( ما حكاية الإطار الأسود؟ ) مقارنة بإطارات أخرى حوت صورًا لنساء عاريات، ولم هو فارغ ( بدون صورة ) لتأتي الإجابة فورية.. مخيلة صورة امرأة كان من المفترض أنها داخله، لكنها لم تكن (ستأتين رغم أنفك )، أي انه حاول وفشل لامتناعها عن الخنوع له ولنزواته المتكررة ( نساء عاريات ) كمقاومة عنيدة لرغباته ورافضة لها، وأن تكون رقمًا او صورة على جدار داخل إطار.
هذا هو النص كما باحت به سطوره وجمله وكلماته، فهل نجحت الكاتبة في تقنية سرديتها وحبكتها حتى اللحظة اي قبيل لحظة الختام؟..أقولها وبملء فمي..نعم ونعم ونعم..نجحت وبجدارة، إذ اعتمدت المشهدية كمدرسة سردية ما بعد حداثية لتغزل فكرة تقليدية معتادة، ونحّت الحدث فجعلته ثانويًا واضحًا غير مبهم أو ملغز، وختمته بمهارة بجملة خاتمة اوجزت فانجزت وكشفت فأوفت..في مشهدية صارخة مستقلة بذاتها مكملة بماهيتها وضرورتها كلحظة تنوير مباغتة، إذ تبدى لنا ( قبضة ) و ( خيوط لاذت بالفرار ).. كادت تقع وربما أغرقها بطلاوة لسانه وسحر رجولته، لكنها افلحت في الافلات من قبضته، واطلقت ساقيها في الاتجاه المعاكس، فلا ولن تكون مجرد صورة معلقة وروح بائسة مهزومة، ولا لن تكون مجرد رقم يدونه في مفكرته، ثم لا يلبث أن يتجاوزه إلى الرقم الذي يليه، إنها اللحظة الفاصلة بين الانبهار والانهيار، بين السكر والإفاقة، بين السقوط والنجاة..تلك اللحظة هى عنوان النص المدوّن بمداد أبيض لا تراه أعين تقرأ، ولكن تحسه قلوب منصتة لهميس خافت، أخفته عنا الكاتبة خلف سطور نصها، لنحسه ونستشعره ونتخيله ونتأمله.
••••••••
محمد البنا ١٦ ابريل ٢٠٢٢