قراءة بقلم / محمد البنا
لنص * الجزيرة *
لسيدة القص القصير / أمل البنا
.............................
النص
الجزيرة
أنظرللمرآة مؤخراً، عّلها تعكس صورة الأخرى التي تحدثني و تهمس بأذني. نفس الصوت والصورة التي واجهتني مرات في لحظاتٍ خاطفة، و قد رسمتْ على وجهها ابتسامة الموناليزا المرتابة. تطاردني أينما ذهبت، حتى أنها أخذتْ تصبُ في رأسي كلماتها كلما دارت الأحاديث بيني وبين حبيبي على الهاتف، وكأنها تسمع كلماته و أنفاسه التي يبثها لي. تشاطرني إياه. تعشقه مثلي، بل ربما يزداد الوهج في عينيها، حتى أنها أفزعتني يوما و أنا أصارعها لمحاولتها انتزاع الهاتف لتحادثه بدلا عني؛ يومها أدركتُ أننا غريمتان، لن تهدأ أي منا إلا بإزاحة الأخرى. ولكي أصرفُ نفسي عن صوتها الطنان، قضيتُ ثلاثة أيام كاملة بالغناء و ترديد كل ما يدور بداخلي في صوتٍ عالٍ؛ كنتُ أشبه بإسطوانة تدور و لا تُجيدُ غير الدوران والهذيان.. سحقاً لها، كم أرغبُ في قتلها. بل رأيتُ بعين التمني أنني قد صرتُ جلادها، الذي يلف حول عنقها حبل إعدامها؛ و كم كانت سعادتي تُحلق خلف روحها البغيضة و ترجمها بكل اللعنات، يالها من أحلام اليقظة التي تزيدني كراهية لعجزي أن أنال منها، أو أن أُوقف هذا الصقيع الذي يحتاحني بلا شفقة. بعينين متحجرتين و حلقٍ مفتوح، ولسانٍ ضاربٍ للكلمات، كنت أسقطُ ككرة الجليد التي تنتفخ كلما هرولت نحو الهاوية، و ها أنا ذا مثخنة من الدوار، متخنة بالكلمات التي أطحتها في فراغ حجرتي، أتوسد رايتي البيضاء المنكسة، منتظرة لإنتقامها لقدرتي على إزاحتها عني كل هذه الفترة. غير أنني غفوتُ للحظة، احترقت بعدها كل المصابيح بعقلي، لأنام مختنقة في عتمتها
لا أدري كم مرَّ من الساعات أو الأيام و أنا على هذا الحال. و مع أول تثاؤب لي رأيتُ الثقاب الذي اشتعل مراراً في ظلام أحلامي، ليُلقي بظلال وجهها البائس كماردٍ أمامي
تفحصتُ بقايا النهار التي تحوم أمام نافذتي. و تبينتُ إنقطاع التيار الكهربائي، فقمتُ بإيقاد شمعة. أدركني لحظتها إحساس العائدة من سفرٍ بعيد، و قد استجابت لنداء الجدران و اللوحات، والأصداء التي تترى في دوي فراغات الماضي البعيد..أُدرت كل المعارك وحدي؛ لملمت جروحي التي تسقط في الميادين، و على المحفاتِ حملتها، حيث لا طبيب أو خرقة قماش أكتم بها الدماء تحت سماءٍ حارقة الأديم دوماً
كم كان ظهورك ربيعي في خريفٍ جرد الأشجار من أوراقها. و رغم أنني أُجيد الدفاع بلا نهاية، إلا أنني في لحظة أذكرها جيداً، ألقيتُ بكل أسلحتي معلنة الحب عليك
هي: لمَ لا تقتنصين فرصتك معه إذا؟!
_ أنتِ مرة أخرى!!
هي: عليكِ التريث كما أعهدك
_ ومن تكوني أيتها الشيطانة لأستمع لكِ؟
هي: ربما أكون على عكس ظنكِ بي
_ملاكٌ إذا!!، و حروبك القذرة التي تديرينها معي
هي: ربما تتوهمين
_ أتوهم!، صرتُ أفهمكِ جيدا
هي: لا، لم تفهمي
_ تظنين بي صيدك بالأحراش لتُبلغيه الجنون، هذا هو مقصدكِ مني
هي: هراء
_ اللعنة التي لا تُصيبكِ، فمن أي أرض و سماء أتيتِ؟
هي: نفس الأرض، غير أنها من سماء ليست كسمائكِ أنتِ
_ ستبدأ الفوازير الآن و بعدها حلقة الساحر
هي: لا تهزأي.. فأنا و عشرات يشبهنني تماماً، ظللنا نبحث عنكِ سنوات طويلة، حتى وجدتك بنفسي
_ و محاطة بقبيلة مثلك!!، أؤكد لكِ أنه لا ملجأ للدهشة عندي
هي: كل منا لها حكاية مختلفة، و نهاية واحدة. و كنا نرجوا أن تبلغكِ السعادة
طغى صوت بوق، ولحقه أصوات أجراس السفن بالمرفأ، بينما استمرت في حديثها كقالب من الجبس المهتز في غشاوته الزيتية اللامعة
توقفت الأصوات كلها، و خيم صمت كأنه يفصل بين عالمين. حدقتُ في كل الفراغات من حولي، و تبينتُ أنني أحوي فراغا مماثلا، و أن أي صوت سيتردد كفيلٌ لأن يزعزع الأرض و يُهيل الجدران فوقي
اقتربت مني، بينما كنت أفر كأمواج البحر التي لا تلبث أن تغادر الشاطىء، لتعود هزيلة إليه مجددا
قالت: .. التفتي إليّ جيدا، و أعدكِ بألا أختفي سريعا من أمامك
لم يتبق من الشمعة إلا ذؤابة ضئيلة. تفحصتها، و سقطتُ مغشية على الأرض
أيقظتني الشمس التي دقت أرجاء حجرتي. و تبينتُ الغبار الذي تشتته الرياح. تحسستُ جسدي، و استبد الوجوم بي.. خرجتُ بحثا عنه. شققتُ الأرصفة و الحوانيت. بينما كانت المدينة بأحواضها و منازلها المتصدعة كنسيج عناكب هجرتها الحياة. تذكرته و هو يجلس فوق الشاطىء يشيد بيتنا الرملي، بينما كانت الأشرعة البراقة تجري على صفحة الماء. أشار في لحظة إلى الأفق البعيد، حيث الجزيرة الجرداء قائلا: لمَ لا نتخذها مسكننا؟
ابتسمتُ لفكرته، و خفق قلبي لحظتها لكلمة المسكن، غير أنها تلاشت سريعا، فهي أرض ربما ستجمعنا بلا شريك، إلا أنها ستظل مُحاطة دوما بالمخاطر و الأعين التي تترصدها. و أمام عقلي أيقنتُ أن عبورنا لتلك الجزيرة لا نهاية له؛ لأتركه غير عابئة بمنزله الجديد..
اليوم أفتش عنه، و أغمر القلب بزجاجات عشقه، و أطبع قبلات الشمس الحارقة فوق شفتيه عَلّه يغفر
وجدته مبحرا نحو جزيرتنا. ناديته، غير أن الريح قد حجبت صوتي، فأخذت في السباحة نحوه. وبينما كانت رمال الشاطيء تنسج لونها الذهبي، وجدتهن فوقه، يتقافزن و يشرن لي. تعجبت لتلك الملامح التي طابقتني، و أدركتُ الإنتصار لعجزها عن ملاحقتي. التفتُ لمواصلة السباحة خلفه، لحظتها لم أجده، وتبينتُ الدوامة التي اختطفته. و أنني سريعا قد انضممتُ إليهن.
•••
أمل البنا-١٤ أبريل ٢٠٢٢
.............
القراءة
عندما يستولي وقع الصدمة على كافة حواسنا، حينها يحدث الانفصام النفسي، وتشقق الروح وتشتت الذهن جامعًا اللامرئيات والمرئيات في بوتقة واحدة، لتنضح هلاوس بصرية وذهنية نراها ونحسها ونحادثها..امرأة فقدت حبيبها فجأة، غرق أمام عينيها، لم تستطع فعل شيء مادي لانقاذه، فتتوهم اللحاق به إلى حيث حبهم الأبدي، وترفض واقعة الفقد، تتجزأ النفس..مع وضد، هى مع حبيبها والأخرى( الموت ) منافسة لها عليه، ويتأزم الصراع الانشقاقي النفسي بتأثير الصدمة ..أيهما سينتصر ؟..هى أم هى؟..نحن امام حالة نفسية معروفة طبيا يمتنع فيها العقل عن إدراك الواقع الصادم بقوة وبقسوة، فيتوقف الزمن قبل لحظات من حدوث الصدمة رافضًا لها، يتوقف الزمن كليا.
وكقاصتنا الفذة لم تكتفي بذلك أمعنت في تعميق مشهدية الصدمة ( الحالة النفسية ) بإضافة تجسيد متوهم لانفصام الشخصية، في معادل موضوعي للموت ( ستخطف حبيبها منها ) وليتركز التصاعد السردي حول هذه النقطة بالذات، في مخاتلة جيدة إذ أضمرت مفتاح النص لتباغتنا به في نهاية أقصوصتها ( الدوامة/ غرق الحبيب ) والجزيرة ( الامان ) الذي لن تبلغه أبدا.
براعة سردية موفقة غاية التوفيق،ومعالجة سردية جيدة، استعرضتا جانب خفي من النفس البشرية ( حالة الصدمة وانكار الواقع )، ونجحت بمهارة في مسعاها، إذ حقق النص ما يبتغى منه..متعة وجدانية ( الصراع وتصاعده) ومتعة ذهنية ( المخاتلة).
و يبلغ التشظي النفسي مداه الأقصى لحظة تفجر المأساة، بين جلد ذات كمردود طبيعي وضمني لتخاذل أنتجه عجزها عن انقاذ الحبيب، وبين هول الصدمة وعدم القدرة على استيعابها عقليًا، فترسم الكاتبة المذهلة مشهدها النهائي بحرفية متقنة، إذ تتشظى النفس إلى نفس سابحة وأنفس تتابع مشهد الدوامة والغرق المحتوم عاجزين عن فعل شيء..جمعت فيهن ملامحها كأنما هن هى، وفي ذات الوقت هى نفسها السابحة في الماء..لوحة مشهدية تشابهت مع تعدد المرايا عاكسة نفس الوجه والجسد من عدة زوايا مختلفة ومتعدة ومتغيرة التبئير( بؤرة العدسة ).. وفي ربط تقني حيك ببراعة تمهيدا للخاتمة الصادمة ( ومحاطة بقبيلة مثلك / تعجبت لتلك الملامح التي طابقتني ) وفي تقنية مماثلة عاكست التشظي الممتد عبر سطور القصة، إذ عادت وجمعت الكل في واحد..ففي البدء انقسام وانفصام وفي النهاية توحد ( أنا وهى وهن / انضممت إليهن) عودٌ على بدء تذكيرًا للقارئ المتابع بشغف مجريات الحدث أن الشخصية واحدة، وأن ما قرأه آنفا وتخيله ما هو إلا مفرد... كم انت بارعة يا أمل!!
ملحوظة أخيرة: يعاب عادة استخدام قال وقلت، وانا وهى..في تنسيب الجمل الحوارية، والأصوب الاكتفاء ب (- ) في بدء الجملة الحوارية خاصة وإن المتحاوريالتشظي والتبئير..تقنية سردية
قراءة بقلم / محمد البنا
لنص * الجزيرة *
لسيدة القص القصير / أمل البنا
.............................
النص
الجزيرة
أنظرللمرآة مؤخراً، عّلها تعكس صورة الأخرى التي تحدثني و تهمس بأذني. نفس الصوت والصورة التي واجهتني مرات في لحظاتٍ خاطفة، و قد رسمتْ على وجهها ابتسامة الموناليزا المرتابة. تطاردني أينما ذهبت، حتى أنها أخذتْ تصبُ في رأسي كلماتها كلما دارت الأحاديث بيني وبين حبيبي على الهاتف، وكأنها تسمع كلماته و أنفاسه التي يبثها لي. تشاطرني إياه. تعشقه مثلي، بل ربما يزداد الوهج في عينيها، حتى أنها أفزعتني يوما و أنا أصارعها لمحاولتها انتزاع الهاتف لتحادثه بدلا عني؛ يومها أدركتُ أننا غريمتان، لن تهدأ أي منا إلا بإزاحة الأخرى. ولكي أصرفُ نفسي عن صوتها الطنان، قضيتُ ثلاثة أيام كاملة بالغناء و ترديد كل ما يدور بداخلي في صوتٍ عالٍ؛ كنتُ أشبه بإسطوانة تدور و لا تُجيدُ غير الدوران والهذيان.. سحقاً لها، كم أرغبُ في قتلها. بل رأيتُ بعين التمني أنني قد صرتُ جلادها، الذي يلف حول عنقها حبل إعدامها؛ و كم كانت سعادتي تُحلق خلف روحها البغيضة و ترجمها بكل اللعنات، يالها من أحلام اليقظة التي تزيدني كراهية لعجزي أن أنال منها، أو أن أُوقف هذا الصقيع الذي يحتاحني بلا شفقة. بعينين متحجرتين و حلقٍ مفتوح، ولسانٍ ضاربٍ للكلمات، كنت أسقطُ ككرة الجليد التي تنتفخ كلما هرولت نحو الهاوية، و ها أنا ذا مثخنة من الدوار، متخنة بالكلمات التي أطحتها في فراغ حجرتي، أتوسد رايتي البيضاء المنكسة، منتظرة لإنتقامها لقدرتي على إزاحتها عني كل هذه الفترة. غير أنني غفوتُ للحظة، احترقت بعدها كل المصابيح بعقلي، لأنام مختنقة في عتمتها
لا أدري كم مرَّ من الساعات أو الأيام و أنا على هذا الحال. و مع أول تثاؤب لي رأيتُ الثقاب الذي اشتعل مراراً في ظلام أحلامي، ليُلقي بظلال وجهها البائس كماردٍ أمامي
تفحصتُ بقايا النهار التي تحوم أمام نافذتي. و تبينتُ إنقطاع التيار الكهربائي، فقمتُ بإيقاد شمعة. أدركني لحظتها إحساس العائدة من سفرٍ بعيد، و قد استجابت لنداء الجدران و اللوحات، والأصداء التي تترى في دوي فراغات الماضي البعيد..أُدرت كل المعارك وحدي؛ لملمت جروحي التي تسقط في الميادين، و على المحفاتِ حملتها، حيث لا طبيب أو خرقة قماش أكتم بها الدماء تحت سماءٍ حارقة الأديم دوماً
كم كان ظهورك ربيعي في خريفٍ جرد الأشجار من أوراقها. و رغم أنني أُجيد الدفاع بلا نهاية، إلا أنني في لحظة أذكرها جيداً، ألقيتُ بكل أسلحتي معلنة الحب عليك
هي: لمَ لا تقتنصين فرصتك معه إذا؟!
_ أنتِ مرة أخرى!!
هي: عليكِ التريث كما أعهدك
_ ومن تكوني أيتها الشيطانة لأستمع لكِ؟
هي: ربما أكون على عكس ظنكِ بي
_ملاكٌ إذا!!، و حروبك القذرة التي تديرينها معي
هي: ربما تتوهمين
_ أتوهم!، صرتُ أفهمكِ جيدا
هي: لا، لم تفهمي
_ تظنين بي صيدك بالأحراش لتُبلغيه الجنون، هذا هو مقصدكِ مني
هي: هراء
_ اللعنة التي لا تُصيبكِ، فمن أي أرض و سماء أتيتِ؟
هي: نفس الأرض، غير أنها من سماء ليست كسمائكِ أنتِ
_ ستبدأ الفوازير الآن و بعدها حلقة الساحر
هي: لا تهزأي.. فأنا و عشرات يشبهنني تماماً، ظللنا نبحث عنكِ سنوات طويلة، حتى وجدتك بنفسي
_ و محاطة بقبيلة مثلك!!، أؤكد لكِ أنه لا ملجأ للدهشة عندي
هي: كل منا لها حكاية مختلفة، و نهاية واحدة. و كنا نرجوا أن تبلغكِ السعادة
طغى صوت بوق، ولحقه أصوات أجراس السفن بالمرفأ، بينما استمرت في حديثها كقالب من الجبس المهتز في غشاوته الزيتية اللامعة
توقفت الأصوات كلها، و خيم صمت كأنه يفصل بين عالمين. حدقتُ في كل الفراغات من حولي، و تبينتُ أنني أحوي فراغا مماثلا، و أن أي صوت سيتردد كفيلٌ لأن يزعزع الأرض و يُهيل الجدران فوقي
اقتربت مني، بينما كنت أفر كأمواج البحر التي لا تلبث أن تغادر الشاطىء، لتعود هزيلة إليه مجددا
قالت: .. التفتي إليّ جيدا، و أعدكِ بألا أختفي سريعا من أمامك
لم يتبق من الشمعة إلا ذؤابة ضئيلة. تفحصتها، و سقطتُ مغشية على الأرض
أيقظتني الشمس التي دقت أرجاء حجرتي. و تبينتُ الغبار الذي تشتته الرياح. تحسستُ جسدي، و استبد الوجوم بي.. خرجتُ بحثا عنه. شققتُ الأرصفة و الحوانيت. بينما كانت المدينة بأحواضها و منازلها المتصدعة كنسيج عناكب هجرتها الحياة. تذكرته و هو يجلس فوق الشاطىء يشيد بيتنا الرملي، بينما كانت الأشرعة البراقة تجري على صفحة الماء. أشار في لحظة إلى الأفق البعيد، حيث الجزيرة الجرداء قائلا: لمَ لا نتخذها مسكننا؟
ابتسمتُ لفكرته، و خفق قلبي لحظتها لكلمة المسكن، غير أنها تلاشت سريعا، فهي أرض ربما ستجمعنا بلا شريك، إلا أنها ستظل مُحاطة دوما بالمخاطر و الأعين التي تترصدها. و أمام عقلي أيقنتُ أن عبورنا لتلك الجزيرة لا نهاية له؛ لأتركه غير عابئة بمنزله الجديد..
اليوم أفتش عنه، و أغمر القلب بزجاجات عشقه، و أطبع قبلات الشمس الحارقة فوق شفتيه عَلّه يغفر
وجدته مبحرا نحو جزيرتنا. ناديته، غير أن الريح قد حجبت صوتي، فأخذت في السباحة نحوه. وبينما كانت رمال الشاطيء تنسج لونها الذهبي، وجدتهن فوقه، يتقافزن و يشرن لي. تعجبت لتلك الملامح التي طابقتني، و أدركتُ الإنتصار لعجزها عن ملاحقتي. التفتُ لمواصلة السباحة خلفه، لحظتها لم أجده، وتبينتُ الدوامة التي اختطفته. و أنني سريعا قد انضممتُ إليهن
امل البنا ١٤ أبريل ٢٠٢٢
.............
القراءة
عندما يستولي وقع الصدمة على كافة حواسنا، حينها يحدث الانفصام النفسي، وتشقق الروح وتشتت الذهن جامعًا اللامرئيات والمرئيات في بوتقة واحدة، لتنضح هلاوس بصرية وذهنية نراها ونحسها ونحادثها..امرأة فقدت حبيبها فجأة، غرق أمام عينيها، لم تستطع فعل شيء مادي لانقاذه، فتتوهم اللحاق به إلى حيث حبهم الأبدي، وترفض واقعة الفقد، تتجزأ النفس..مع وضد، هى مع حبيبها والأخرى( الموت ) منافسة لها عليه، ويتأزم الصراع الانشقاقي النفسي بتأثير الصدمة ..أيهما سينتصر ؟..هى أم هى؟..نحن امام حالة نفسية معروفة طبيا يمتنع فيها العقل عن إدراك الواقع الصادم بقوة وبقسوة، فيتوقف الزمن قبل لحظات من حدوث الصدمة رافضًا لها، يتوقف الزمن كليا.
وكقاصتنا الفذة لم تكتفي بذلك أمعنت في تعميق مشهدية الصدمة ( الحالة النفسية ) بإضافة تجسيد متوهم لانفصام الشخصية، في معادل موضوعي للموت ( ستخطف حبيبها منها ) وليتركز التصاعد السردي حول هذه النقطة بالذات، في مخاتلة جيدة إذ أضمرت مفتاح النص لتباغتنا به في نهاية أقصوصتها ( الدوامة/ غرق الحبيب ) والجزيرة ( الامان ) الذي لن تبلغه أبدا.
براعة سردية موفقة غاية التوفيق،ومعالجة سردية جيدة، استعرضتا جانب خفي من النفس البشرية ( حالة الصدمة وانكار الواقع )، ونجحت بمهارة في مسعاها، إذ حقق النص ما يبتغى منه..متعة وجدانية ( الصراع وتصاعده) ومتعة ذهنية ( المخاتلة).
و يبلغ التشظي النفسي مداه الأقصى لحظة تفجر المأساة، بين جلد ذات كمردود طبيعي وضمني لتخاذل أنتجه عجزها عن انقاذ الحبيب، وبين هول الصدمة وعدم القدرة على استيعابها عقليًا، فترسم الكاتبة المذهلة مشهدها النهائي بحرفية متقنة، إذ تتشظى النفس إلى نفس سابحة وأنفس تتابع مشهد الدوامة والغرق المحتوم عاجزين عن فعل شيء..جمعت فيهن ملامحها كأنما هن هى، وفي ذات الوقت هى نفسها السابحة في الماء..لوحة مشهدية تشابهت مع تعدد المرايا عاكسة نفس الوجه والجسد من عدة زوايا مختلفة ومتعدة ومتغيرة التبئير( بؤرة العدسة ).. وفي ربط تقني حيك ببراعة تمهيدا للخاتمة الصادمة ( ومحاطة بقبيلة مثلك / تعجبت لتلك الملامح التي طابقتني ) وفي تقنية مماثلة عاكست التشظي الممتد عبر سطور القصة، إذ عادت وجمعت الكل في واحد..ففي البدء انقسام وانفصام وفي النهاية توحد ( أنا وهى وهن / انضممت إليهن) عودٌ على بدء تذكيرًا للقارئ المتابع بشغف مجريات الحدث أن الشخصية واحدة، وأن ما قرأه آنفا وتخيله ما هو إلا مفرد... كم انت بارعة يا أمل!!
ملحوظة أخيرة: يعاب عادة استخدام قال وقلت، وانا وهى..في تنسيب الجمل الحوارية، والأصوب الاكتفاء ب (- ) في بدء الجملة الحوارية خاصة وإن المتحاورين اثنان لا ثالث لهما.
محمد البنا ١٥ أبريل ٢٠٢٢ن اثنان لا ثالث لهما.
------
محمد البنا-١٥ أبريل ٢٠٢٢