الجدار الوهم ..حاجز نفسي محض
« قراءة تأويلية »
بقلم: الأديب / محمد البنا
لنص « جدار »
للقاص / عصام الدين محمد أحمد
......................
النص
« جدار »
منذ أن وطئت قدماه البسيطة وهو يعد نفسه لهذه اللحظة الحرجة،ترسخت إرادة العبور في مخيلته مذ وعيه بمدلولات الأشياء،أرهاصات ذكرى تلاحقه:
"يخفت صوت الأم:الجدار ثابت.
يهمس الأب:لو أتقنت الأعداد لعبرت.
الهِرم يخطب:من يمكنه تخطي هذا الجدار يتبدل حاله.
الغادون والرائحون يلهثون خلف البحث عن جوهره،حتى أرفف مكتبة المدينة العمودية تنأى عن حمل مؤلفاته."
أزدرد تهدجات الأم الخفيضة،وحسرات الأب اللائمة،ووعود الكهل البراقة.
ألتهم جميع المخطوطات،أستحضر آيات الخلود،تأمل المعاول العملاقة المفتتة لجبال الصخور:
أكل هذا الجبروت ينأى عن ثقب جدار؟
نزل بمعسكر المتبارين،المئات والمئات من سحنات الوجوه الجهمة.
يعدو،يقفز،يتقاتل مع أخيلة الفولاذ،تتنامى عطلاته،تترسخ عقيدته بحتمية اختراق الجدار وتحطيمه.
في الساحة تعلن مكبرات الصوت في تحد سافر:
فشل كل المحاولات منذ فجر التاريخ وعقب الحقب الزمنية المتتالية،الملايين ضحايا.
جمعهم الأجرب- أي والله- ليصوروا بعيونهم الجدار العملاق،يتناجى:
مجرد التفكير في اختراقه عبث!
سد يناطح السماء ويحتل الأفق.
بناء شامخ،فمهما أوتيت من قوى الأبصار الطبيعية والصناعية لم ولن تلمح تخومه.
الأشعار المنسكبة من نهر فيوضاته لا تمثل سوى جزء يسير من واقعه،دوما الخيال يضخم الحقيقة ولكن معه أضحى الخيال هلامي.
مغص ثعباني يلوكه،الحلم يحتضر ضاربا كيانه بلا هوادة،تتناوشه الأخيلة:
"هذيان الأب،ونحيب الأم،ووجوم الجد،وأجنة الأماني المجهضة"
يرتعش رعشات عنيفة وموجعة،يزول المغص،يسوقه الأجرب ليريه محاولات ثقب الجدار،التي تلاشت قبل أن تبدأ:
أيصيبه اليأس؟
تلى الأجرب قانون السباق:
لا تلامس الجدار.
يخور عزم إرادة المتسابقين،حمم الأعياء تكوي رؤوسهم..لم يتبق على ميعاد التباري سوى أيام قليلة،يتشبث بالتدريب القاسي،صار جسده مقذوفا ناريا فتاك،وكلما حدثته نفسه بالراحة برهة،يتذكر أنه بعد الغد سيتحدد المصير.
يحذر المذياع- خلال موجة ارسال وحيدة- موت وصعق كهربائي ماحق لمن يحاول مجرد الملامسة.
يضيف المحلل الاستراتيجي:لم يُصرع هذا الجدار إلا في أخيلة معتلة،عوالم-لا حصر لها- أنفقت الدهورولم تثقب خرم أبرة،ولم يبق منها سوى الاطلال.
يتنبأ خبير التكهنات الأعلى بزلزال يدق نفوس المتنافسين.
وينتشر غي أرجاء المدينة شعار:
"الموت الزوؤام لمن تسول له نفسه لثم الجدار"
تطلق صافرة الانطلاق مع بزوغ شعاع القرص الأبدي.
ينطلق.
ينشرون المتاريس.
يتخطاها.ومع دنو الهدف تلتهب الأنفس،ويغور في المنطقة الحرجة.
هاهو الجدار،لا يقصيه عنه سوى خُطى معدودة.
يقترب..يقرب..يلامس..
يتحطم الجدار.
يخترق صوته آذان الارض.
مقذوفات..جسد يعاني التطوح..تسقط الحدود..تتلاشى التخوم..تنفجر ينابيع دم.
صرخات الجسد المتهاوى تعبر الكفور والنجوع والقرى والمدن والدروب والأزقة.
يستحلب المذياع ترانيم الضحى..ينتشي بالإعلان عن مسلسل السهرة:
لعنة الجدار تلاحق عابريه.
تمت بحمد الله
عصام الدين محمد أحمد ١٢ أبريل ٢٠٢٢
...................................
« القراءة »
الجدار..الوهم..الحاجز النفسي بين الواقع والمأمول..عندما يتصارع التمني مع الواقع المرير، تكون النتيجة الحتمية تضخم الوهم، فيصير الخيال واقع، لكنه واقع متوهم..تبصره العيون، وتشنف له الآذان، تماما كما فعل سحرة فرعون مع مشاهديهم..إذ تجسدت العصي ثعابين متوهمة، تبصرها عيونهم وتسمع فحيحها آذانهم، وفي الحقيقة المطلقة لا وجود لثعابين تسعى ولا لفحيحٍ يُسمع، لكنه الايهام يتبعه التوهم..هكذا جدار قصتنا..يرونه ولكن ممنوع عليهم لمسه، وإلا كان الصعق..يبدأ الضعف ( الأم ) ويناوئ قولها ( الأب ) مشجعًا ومحفزا للأبن، ويؤكد قوة الجدار وثباته ..الأجرب، ثم تتولى الجوقة الإعلامية الشرح والتفسير والتحذير...هكذا تُخدر الشعوب..خلق خوف مما لا وجود له، وتستمر الكذبة حتى تشيع وتستقر أوتادها في قلوب الناس، فيتناولونها همسًا في مجالسهم، وأرقًا في أحلامهم، ليصير الوهم أسطورة..لا فائدة من التصدي لها..جدار من المحال تجاوزه..هكذا صوروه، وهكذا أرادوا ( الحكام ) اقناع الرعية به، يخامر بطلنا الأمل في العبور..عبور أزمته النفسية المعاشة ليتجاوزها إلى غدٍ أفضل ( ثورة على الظلم ) فيستعد ويستعد ويستعد، ويتجرأ ويعبر، ويتهدم الجدار الوهم ويعبروه آخرون، لكن تجبر السلطة يترصدهم برصاصه ومقذوفاته..جثث..قتلى ..ينابيع دم، وتتولى الماكينة الاعلامية مهمتها..١- نشر الفزع (صراخ الجسد ينتشر في القري والمدن والكفور
٢- اذاعة ترانيم الضحى
٣- الاعلان عن مسلسل السهرة
٤ - إرهاب كل من يتجاسر ويحاول العبور...
لا يزال الوهم قائما..لا يزال الجدار ثابتا في نفوس الخانعين الخائفين..وهو المطلوب وبقوة لإحكام السيطرة، هذا ما يشي به النص، وللوهم مسارب أخرى..منها على سبيل المثال لا الحصر..شيطنة الآخر.
نص رمزي يتناول حالة من أحوال النفس البشرية، وتضفيرها مع نظام متسلط، يزرع الخوف وترويه جوقته الإعلامية، ويترصد عسسه كل من تهمس له نفسه بعبور الحاجز المتوهم...الجدار، فالجدار لا وجود له إلا في أوهامنا المنبثقة من خوف مجهول غير مرئي، لكننا نصنعه ونصوره بداخلنا، ومن ثم يتضخم فتراه أعيننا رأي العين، وسأكتفي بما حاولت فك رموزه وتأويلها دون التطرق لتأويلات لا أتحمل عواقبها، فأنا أحد هؤلاء الرائين للجدار رأي العين، وفي ذات الوقت متيقنٌ من كونه وهما لا أكثر..إلا أنني لن احاول عبوره..وكما قال أحدهم يوما ما " لقد هرمنا "...تحياتي ايها المبدع المجدد
••••••••••
محمد البنا ١٣ أبريل ٢٠٢٢