قراءة انطباعية موضوعية
لقصة ( أحلام حمير) للكاتب : عبد السلام الإبراهيم
بقلم : أ.علي خالد
النص:
أحلام حمير
لطالما قال لي جدي:
لا تشّرد يابني قم للعمل فالشرود للتنابل و الحمير فقط.
صحيح ...هذا حماري أراه الآن شارداً، رأسه مطأطأ وجسده ساكن وعيناه تنظران إلى اللاشيء، إذاً هو يحلم، ولكن تُراه بماذا يحلم؟
ربما بحقول شاسعة من العشب الأخضر الطري الندي اللذيذ، أو بشهباء مكتنزة شهوانية، تحرك مؤخرتها بغنج وخبث، أو ببراري بكر يركض فيها على رأس ثلةٍ من جماعته فينهر هذا ويُثني على ذاك، فهو سيدهم وزعيمهم الذي لا تشق له عصا طاعة، يعدهم أن يصبحوا أسوداً تهابهم وحوش البراري.
لا ... لا أعتقد أن أحلامه بهذه الضخامة! ... لمَ لا؟
النائمون غالبا ما يحلمون بأعمال مستحيلة أو خارقة، وهم في الصحو مجرد ريشة تتقاذفها الرياح.
ولكن لماذا يوسم بالغباء؟
هل لأنه ينهق أكثر مما يعمل؟ أم أنه أطاعهم فاستخفوا به وأذلوه؟ أم ببساطة هكذا خلقه الله مطية للآخرين ؟
كثيرا ما يستذكر جدي سيرة حماره النافق فيقول:
عندما وصلتُ بحيرة طبريا أسوق حماري الأصيل للمشاركة بحرب فلسطين، كانت أفواج المتطوعين تتسابق وكأنها مدعوة لحفل زفاف، فقد تحققتْ أحلامنا ... كيف لا؟
فلسطين على مرمى حجر وجحافل الزعماء العرب (حفظهم الله) تُساق من الجهات الأربع.
وما إن عبرنا البحيرة حتى ظهرتْ لنا مروج خضراء على إمتداد النظر، تتمايل أعشابها الطرية الندية مع نسمات البحر اللطيفة،وهي أشبه ما تكون بالجنة الموعودة.
هناك خيّمنا نأكل ونرتع ونتسامر وننشد أهازيج النصر و قصائد الغزل والمديح بالزعماء (حفظهم الله) ونقرأ أدعية شيوخنا وتعويذاتهم وتمائمهم.
حينها التهم حماري العشب بنهم حتى ما عادت قدماه تقوى على حمله.
وبعدها التقى بشهباء مكتنزة سلبتْ لبّه، فشهق ونهق وفرّ من بين يدي، وبعد يومٍ وليلة عاد مثخن الجراح ينزف وأنياب الذئب خطتْ أثرها على جسده، فقتلتُه رحمة به، وعدتُ بعد الحرب مهزوماً وحيداً مبتور الساق وبخفي حنين ولكن لم أجد من يقتلني رحمةً بي.
_ _ _ _ _ _ _
القراءة:
الحمار ، هذه الدابة الأليفة الرؤوم،لم تكن فقط مطية الإنسان في حله وترحاله تقضي أعماله وتحمل أثقاله ، بل كان لها في تاريخ الأدب حضور عظيم ، مطية أخرى وجد فيها الأدباء في كل أجناس الأدب مأربا استطاعوا من خلاله تمرير رسائلهم . وجدوا فيه من الصفات التي ترسخت في الذاكرة الجمعية كما في المدونة الأدبية شعرا أو نثرا من الجاحظ إلى توفيق الحكيم ما يسر على من جاء بعدهم استلهام هذه الصور المتعددة لكائن واحد لمعالجة قضايا فكرية وسياسية وحضارية عميقة ، مثلما وجدوا فيها من الفكاهة والسخرية ما عمّر المجالس وأطلق الألسن.
فما وجه الطرافة والجدة في استدعاء هذه الصورة لدى الأستاذ القاص عبد السلام الإبراهيم ؟ وكيف استطاع ، فنيا ، أن يوظف هذه السمات المتباعدة والمتقابلة حد التناقض أحيانا لمعالجة قضايا حضارية في غاية التعقيد والدقة ؟ تلك هي الأسئلة التي تلح على القارئ أكثر من غيرها وهو يحاول تقصي بنية الخطاب ودلالاته في هذه القصة القصيرة .
في العتبة ...
أحلام حمير ...مركب إضافي، مكونه الأول في صيغة الجمع، أكثر من حلم واحد ، والحلم ما يراه النائم وتطيب له نفسه ويتمنى تحقيقه في الواقع ،والا كان أضغاثا أو كابوسا ، والجمع دلالة التعدد والكثرة وهو على هذه الحال تعبير عن رغبات و أمنيات منشودة مأمولة. والمضاف اليه وسيلة تتخذها اللغة للتعريف بما ورد نكرة في المضاف، ويفاجؤنا القاص ، ومنذ العتبة ، بهذه الاضافة المربكة ترفع درجة الدافعية وسقف التشويق ، حمير ، في صيغة الجمع أيضا ، لهذا الكائن الذي استقر في الذاكرة مرادفا للغباء، في مرتبة دونية حتى ضمن فصيلة الدواب تصل درجة التحقير والاستهجان حين تتمحض العبارة للتعبير عن كل سلوك أو تفكير أو تصرف غير مقبول اجتماعيا ،أخلاقيا،أو منطقيا...لتكتمل الصورة منذ البدء. ينجح القاص في رسم مضمار انتظار القارئ ، بل يقحمه في مسارين لا ثالث لهما ، اما أن يكون إزاء نص نقدي لاذع يعالج ظاهرة اجتماعية لافتة بأسلوب تهكمي ساخر ، أو هو بصدد مباشرة نص قصصي سياسي بامتياز يتخذ من الحمار/ الحمير قناعا ليوجه سهامه.
وفي الحالتين ، لن يعدم طرافة الطرح وذكاء المعالجة .
في المتن....
انطلق النص استرجاعا وتذكرا ، " لطالما" عبارة دالة على الكثرة والتكرار وهي صيغة أخرى من صيغ التأكيد على أهمية الحدث أو القول .صيغة مكنت السارد من تحويل القول من مجرد حدث عابر إلى حديث يجري مجرى الحكمة التي لا تنسى ولا يبليها الزمن نسبها إلى الجد ، حاضرا بكل ما يكتنزه من الدلالة على الخبرة والحكمة والنضج من ناحية والتاريخ والماضي والأجيال المتعاقبة من ناحية أخرى .
نهي وأمر يعقبهما تعليل وتفسير .نهي عن الشرود بما هو غياب الفكر والعقل عن ماهو كائن وانصراف الذهن والحواس إلى ما لا علاقة له بالمقام ودعوة إلى القيام للعمل والجد .عملان لغويان كان يمكن أن يفتحا على برنامج سردي مغاير تماما . غير أن القاص يمنحه مسارا مخصوصا دقيقا بفاء التفسير والتعليل . "فالشرود للتنابل والحمير فقط". فيفتح مسارا يستدعي الحجة والمثال ليكون الحمار مطية فنية ، هذه المرة ، لمسار نقدي تشريحي للواقع ومشرطا حادا لتشريح الماضي.
ثم ، يبنى القاص نصه على تقابل مقطعين فرعيين، بين زمنين مختلفين متباعدين، الحاضر والماضي، لكنهما يلتقيان في النتيجة والمآل .تفصل بينهما جملة سردية يسترجع فيها الراوي حديث الجد " كثيرا ما يستذكر جدي سيرة حماره...".
مشهد أول ، يقف فيه السارد مشاهدا ،ملاحظا، متدبرا ومعتبرا أيضا، أمام حماره، ليفترض من شروده أنه " يحلم" . ثم ينساق في مسار تخميني في مضمون الحلم . حلم لم يخرج في النهاية عن تلبية رغبات حيوانية متأصلة في هذا الكائن كما في بني جنسه : الغذاء والشهوة الجنسية. وبقليل من التعسف على النص يمكن أن تتوسع الشهوة إلى شهوة السلطة والزعامة.
إسقاط صريح على واقع سياسي بائس لا تختلف فيه أقطارنا العربية الا بتنسيب ضعيف.
ومشهد ثان ،هو نص مقول قول الجد . يتحول الراوي فيه مجرد ناقل للخبر. ليجد القارئ نفسه أمام راو عليم / راو شخصية مشارك في الحدث. قصة مضمنة تقوم مقام الحجة والمثال لمسار حجاجي برهاني للحكمة الواردة في الاستهلال. زمن الوقائع فيها مغاير لزمن القص. الحمار أحد أبطالها بل لعله بطلها الرئيسي. يصل به الجد مع أفواج المتطوعين إلى تخوم فلسطين للمشاركة في تحريرها. لتنتهي بخيبة وانكسار قبل تحقيق الحلم. فيخذل الحمار صاحبه وتسقطه الرغبة والوفرة والشهوة . فيعود وقد عبثت به الذئاب مثخنا بالجراح.
إسقاط ثان، لمرحلة تاريخية مهمة في تاريخ الصراع العربي مع الكيان المحتل وقراءة تخييلية فنية لأسباب الخيبة والفشل.
خيبة جعلت الجد يقتل الحمار فنيا قصصيا ويعود مهزوما يتجرع مرارة الانكسار فلا يجد من يسعفه برصاصة الرحمة.
على هذا النحو ، تصبح أحلام الجد ، تماما ، كحلم السارد ، أحلام لا ترى النور ، بل قد تنتهي بالفاجعة والألم مالم تكن مقترنة بالعمل وما لم تنتصر / ترتفع عن الرغائب الحيوانية الدنيا وشهوات الزعامة الزائفة....وان لم تكن كذلك فستظل " أحلام حمير" ، فليس العيب في الأحلام ولكن العيب في أن تقف أحلامنا عند الحد الأدنى وأن لا نعمل من أجل تحقيقها.
في البناء الفني ...
لاشك أن لغة القاص وأسلوبه قد أسبغا على القصة جمال التذوق وبهاء العرض ، وقد وفق في انتقاء الشخصية المحورية التي مكنته من تركيز الحدث وإبلاغ المعنى فضلا عن قدرته المبهرة في خلق التشويق وشد القارئ....غير أن توزيع الحدث على أزمنة مختلفة أضعف الحبكة القصصية . كما ساهم الانسياق وراء الاستفهام المجاني وغير المبرر فنيا أحيانا بترك مساحات من الفراغ لا يجد القارئ في النص ما يسدها يطفئ رغبته في التوازن.
في النهاية ...
نجح القاص بأسلوب فني متميز قائم على السخرية المستفزة اللاذعة ، في أن يدفع بنا إلى العودة إلى السؤال الحارق ، كيف السبيل إلى تحقيق الحلم ، حلم الأجيال في تحرير الأرض المغتصبة ؟ مثبتا في آن ، أن الغاية لا تتحقق إلا بالعمل كي لا تكون " أحلامَ حمير"....أعزكم الله.
-----------------------------