هستيريا.
قصة قصيرة.
بقلم: أ.خالد العجماوي.
- صادق. أنت متأكد؟ الشيخ وحيد بنفسه؟
- نعم. هو بنفسه..
- وتؤكد لي أن عينه سليمة؟
- سليمة تماما يا د.عبد العليم. صدقني. نظره ستة على ستة.
رجع إلى الوراء. نفث دخان سيجارته وشخص إليّ بعينين حادتين. قال:
- إذن فالتشخيص المبدئي هو هستيريا العمى. لا بد أن أراه عندي في العيادة.
لم أنبس بحرف. فقط بادلت نظرته الحادة إليّ بنظرة حاولت أن أجعلها حادة وواثقة كنظرته. أتراه لا يصدقني؟ هل يشك في قدرتي المهنية؟ وهل يحتاج العمى إلى طبيب عيون حاذق لتشخيصه؟ المشكلة أن الشيخ وحيد معروف جدا في
الأوساط الإعلامية. ستكون كارثة لو علم أحد بالأمر. الشيخ وحيد مصاب بمرض نفسي؟ هستيريا؟!
تفحصت في ملامح الدكتور عبد العليم وهو جالس خلف مكتبه في عيادته الخاصة. هو متمرس قديم في الطب النفسي، حصل على رئاسة القسم لدينا في الجامعة قبل أن يصبح أستاذا متفرغا منذ سنوات عدة بعد بلوغه الستين. عصبي هو. عيناه حادتان كالصقر. يؤمن بعلمه حد التقديس.
ما أخبرته عن الشيخ وحيد أثار استغرابه في البداية لاشك. ولكنه لايؤمن بمثل هذه الأشياء. طالما ليست في الكتب العلمية فهي عنده محض هراء.
سألته بعد تردد قصير:
- ولكن هل تكون هستيريا العمى جزئية؟ أليس من المفترض أن يصاب بالعمى كليا يا دكتور؟
- ليس شرطا..طبعا الحالة غريبة ولكنها مفهومة بالنسبة لي.
- مفهومة؟
- اسمع. أمثال الشيخ وحيد هذا يعرفون أنهم نصابون. هو يأكل على قفا الناس وجهلهم. هو يبيع لهم الوهم باسم ما يعتقدون. يطالعنا كل يوم عبر التليفزيون ليرسخ في أذهان الناس الوهم.
نفث دخانا وظل يرقبه وهو يسبح في الأثير:
- يبدو أنه لايزال لديه بعض من ضمير. صحا فجأة وأوجعه أن يبيع الوهم للناس. أن يسكت في الناس الطموح باسم الإيمان.
نظرت إلى عيني د.عبد العليم وهما يلمعان. مؤمن هو. ولكن بالعلم وحده! أردف:
- قام عقله بحيلة دفاعية على شكل هستيريا توافق ما يؤمن به من معتقد. حيلة دفاعية على شكل عقاب للذات.
هالني تفسيره للأمر. عجيب!
قررت أن أقذف إليه بقنبلة جديدة. قلت مسرعا:
- ليس الشيخ وحيد فقط يا دكتور.
ابتسم ساخرا، وهو يطفيء السيجارة بعصبية دفينة. قال:
- لن أستغرب إذا قلت نصف شيوخ البلد. كلهم نصابون. ربما صحا ضميرهم كلهم فجأة مرة واحدة. شيوخ السلطان!
- لا.
- من غيره إذن؟
- الراقصة دوللي!
اتسعت عيناه دهشة. تراجع إلى الوراء تارة أخرى، والتقط سيجارة جديدة، قال:
- دوللي؟!
- نعم.
- غريبة!
أجبته وأنا أعلم أنها مفاجأة مذهلة:
- جاءتني تشتكي نفس الشكوى. هي ترى كل شيء حولها بلا أي مشاكل. إلا حينها فقط.. لحظتها لا ترى شيئا. مجرد صفحة بيضاء!
- عينها سليمة؟
- تماما.
- ولكن هل تقوم دوللي ب....
قاطعته:
- وليست دوللي وحدها يا دكتور..
تقلص وجهه. بدا الأمر تحديا حقا لتاريخه العلمي. إذا كان الشيخ وحيد يعاني من هستيريا العمى الجزئي حسب اعتقاده، فما الذي حدث لدوللي؟ هل صحا ضمير هؤلاء فجأة، فقاموا بحيلة دفاعية واحدة على اختلاف أشكالهم وتوجهاتهم؟ شيخ وراقصة؟ لم أذكر للدكتور عبد العليم أن عشرات المرضى توافدوا علي في عيادتي للكشف على عيونهم، جاءوا بنفس الشكوى. وعيونهم سليمة كلهم!
بدا وكأنه يلوك السيجارة في فمه. هز رأسه وكأنه ينفي أمرا ما. قال أخيرا:
- دوللي هي الأخرى. أحتاج أن أراها في العيادة.
سألته بغتة:
- هل لديك مصحف؟
وكأنني أطلقت رصاصة!
تبادلنا النظرات. عيناه الحادتان يصوبهما نحوي كمن يدافع عن نفسه بآخر ماتبقى لديه. وجدت على جبينه عرقا. صار يلمع تحت الضوء. تعرقت يدي فتركت أثرها على مكتبه.
ساد صمت كئيب للحظات، بدت طويلة كدهر. قال في الأخير:
- لماذا تسأل؟
- فلنجرب.
- هل تمزح؟
- هل التجربة نوع من المزاح؟
انكسرت نظرته الحادة فجأة. نظر إلى الأوراق على المكتب وبدأ يتلعثم:
- ولماذا لم تجرب في عيادتك يا د.صادق؟
قلت دون تفكير:
- لم أجرؤ. فلنجرب سويا الآن!
- هل تصدق مثل هذه الأشياء؟
- د.عبد العليم. دعنا نجرب.
رمى عيناه نحو الدرج الأسفل. فتحه وقد بدا في يديه رعشة. قلب في أوراق داخله ثم التقط مصحفا صغيرا ووضعه على المكتب بعد أن نفض بعض الغبار.
ثبتنا عيوننا على وجهينا. تصببنا عرقا. لست أدري لم لم أحاول أن أجرب وحدي. ربما هو الخوف من النتيجة. أردت أن يكون معي أحدهم.
أمسكت أنا بالمصحف الصغير. فتحته ووضعته أمام وجهه. قلت في خفوت:
- اقرأ..
لم ينبس.
مرت دقائق قاسية. لم يعد وجهه ذلك الوجه الجامد الحاد. رأيته كوجه من الشمع الذي يذوب. كان عرقه كاحتراق الشمع! بدا وكأنه قد توقف عن التنفس. صار تمثالا لرجل ملتاع. فهمت الأمر..
بيدين مرتعشتين، قررت أن أقوم بالتجربة الأخيرة.
أدرت المصحف نحوي. أحسست بالدوران. كأنه الطوفان وقت نوح. كأنه البحر يطبق على فرعون. كأنها الصاخة. كأنها الطامة الكبرى.
لم أر سوى صفحة بيضاء!
لدينا نفس الشكوى إذن. نحن لا نستطيع أن نرى القرآن!
كاد قلبي أن يتوقف، وكادت أن تصيبني إغماءة. نظرت إلى الدكتور عبد العليم فوجدته منكسرا. كجبل تصدع أمام تجلي الحقيقة، أو كصنم مكسور بفأس إبراهيم.
خرجت مسرعا من عيادته..ركضت خارجا كمن يهرب من الطوفان. ولكن أين أذهب؟
وجدت نفسي في الشارع. وسط الزحام. هل لايزال ثمة خطوة باقية في التجربة؟
أوقفت رجلا يهم بمرور الشارع. فتحت له المصحف. سألته:
- اقرأ.
نظر لثوان. هز رأسه نافيا وأجاب بلا مبالاة:
- - لا أرى شيئا. آسف.
وذهب مبتعدا.
زاد الدوار في رأسي. صوت الصخب يزداد من حولي يكاد يصم أذني، وصوت أبواق السيارات وأضوائها تبدو كرؤوس الشياطين. أوقفت سيدة عجوز. سألتها:
- سيدتي..اقرئي بالله.
نظرت، ثم قالت مستهزئة:
- أتسخر مني يا سيد؟ ماذا أقرأ في صفحة بيضاء؟
لم يعد ثمة خطوة باقية في التجربة.
هي القيامة؟! ماذا أفعل؟ من أبلغ؟ لقد اختفى القرآن إذن!
لابد أن أذكر الأمر للسلطات..أن أبلغ العالم..لابد أن نتجهز للأمر.. كم بقي من الوقت؟ هل لايزال ثمة زمن؟
جلست على الرصيف وأنا أضع رأسي بين يدي.. وأصوات الأبواق والضجيج كما المطارق. اخترق سمعي نحيب وبكاء.
رفعت رأسي فوجدته طفلا يجلس على الرصيف المقابل. وجدته ينظر نحوي وهو يبكي في خوف. هل يدري بالكارثة؟
رأيتني أمر الشارع لأتجه إليه، وأجلس بجانبه. بدا لي في الثامنة. ربت على كتفه الصغير.
- ما لك يا ابني؟
_ أمي..تهت من أمي!
صوته مذعور. شعرت بقلبه الملتاع. وكأن لدي نفس الخوف. وكأنني تائه في هذا العالم. رغبت بشدة في البكاء.أن يخالط بكاؤه بكائي. أن يشارك الطفل داخلي نحيب الطفل الذي بجانبي. خطرت لي الفكرة فجأة. أمسكت بالمصحف.فتحته له. قلت:
- اقرأ.
نظر إلي في براءة. أمسكه بيديه الصغيرتين. قرأ:
والضحى..والليل إذا سجى..ماودعك ربك..وما قلى..
يا إلهي! وجدت المخلص!
صرخت في هستيريا..قلبت الصفحات. أشرت إليه أن يقرأ مجددا.. مسح دمعته وقد هدأ قليلا..قرأ:
إن الله عنده علم الساعة..وينزل الغيث..
وجدتني أحمل الطفل بين يدي نشوانا..غمرتني فرحة عامرة. ..قذفت بالطفل في الهواء وأنا أصرخ..وجدته يضحك لفرحي..شعر بنفسه بطلا وقد نسي أنه كان طفلا تائها منذ لحظات مضت.
سمعنا صوتها يصرخ من خلفنا في هلع:
- فيكتور!
استدرت لأجد سيدة ترمي بنفسها نحو طفلي المخلص.
احتضنها فيكتور بيديه الصغيرتين، وهو يهتف:
- أمي!
اعتصرته في حضنها، وقد انسكبت الدموع على وجنتيها. همت بحمله والذهاب. استوقفتها بأدب. فتحت لها المصحف وسألتها أن تقرأ. نظرت فيه لثوان..هزت رأسها بتعجب وقالت:
- ماذا أقرأ؟ الصفحة فارغة يا سيد.
أخذت راحة طفلها في يدها وتركتني وسارت. وجدت فيكتور يستدير بوجهه نحوي ببراءة ويده في يد أمه. كانت عيناه تقسم أنه قد قرأ.