ماء آسن
قصة قصيرة
بقلم: أ. ايناس سيد جعيتم
تلتهم حوافر الفرس الأرض في إصرار طاعة لرغبة فارسها في اقتحام حجب الزمان والمكان، تكاد حرارة جسمها وهي تعتصر عضلاتها المنهكة تلهب جلدها، يمد فارسها يده ليربت على رقبتها ويحثها على الاستمرار، يناله الإرهاق فيستسلم لاهتزازه فوق مطيته، يتباطأ صوت حوافرها وهي تنهش الأرض الترابية الجافة ويخفت رويدًا رويدًا ليتثاقل جفنا فارسها ليجول منعدم الوزن بين مشاهد وأصوات....
النهر العظيم يقل ماؤه، يغزو الجفاف خضار كان يفرش الأفق، التربة البنية الجافة بين أصابعه، بهو قصر الوالي يختال كل ركن فيه ببذخ ملفت، عمامة الوالي وحجر العقيق يعلوها في بهاء، تسلمه وثلاثة من أسرع الفرسان لفافة التكليف لتتبع مجرى النهر للوقوف علي علته، تفاصيل رحلة اكتمل البدر فيها ثلاث مرات، وفاة أول رفاقه بالحمى، و.....
أفاقه صهيل الفرس ففتح عينيه، ابتلع ريقه في صعوبة لم يخفف وطأتها إلا ما يحمل من خبر ..
(أحمدك اللهم يا مانح الحياة، كاد هلعي وأنا ممسك بالطمي البني الجاف أن يُحيل عقلي هباء منثورًا مع حبيباتها السابحة في الهواء، اهدأ يا قلب ...فمن بذلوا أرواحهم في هذه الرحلة سيباركون الأرض حين عودة المياه لتروي تشققات المجرى).
يلقي ببصره للمجرى الجاف، تتسلل تشققاته لفؤاده فيجَبرها بما وقر لديه، تلهب حماسته مشاعره فيقبض اللجام بقوة ليهبط بالفرس للمجرى الجاف ليسري به متخيلًا الموج يلاحقه...
(لا أصدق ما أرى، ثلاثة أشهر تآكَل فيها كل الزرع!!!!!
وأين أهل مدينتي؟ هل تبع الناس زروعهم؟
يا الله هل تأخرت لهذه الدرجة!!).
يتابع البيوت المقفرة والطرقات الخاوية، يتصارع القلق والأمل بلبِه، تتنامى لمسامعه أصوات الناس فيدفع الأمل قلقه جانبًا، يقترب من قصر الوالي يهتف بفرسه:
كدنا نصل تجلدي اعلم أنك عانيتِ أكثر مما ينبغي.
(ما هذا الزحام؟ وكأن الخلق جميعًا تكدسوا بقرب القصر)..تتمهل الفرس رغمًا عن فارسها، وتخترق الجمع العجيب في تؤدة
يُساءل نفسه (نعم هي وجوه أعرفها لكنها تبدلت بشكل ما، تشابهت كل العيون بشكل مفجع تعلوها نظرات الذلة، أليس هذا جاري أبو حسان؟ أيهيأ لي أم أن هامته انحنت؟ ليس وحده ...
ماذا دهاكم جميعا ؟ لماذا تمشون مكبين على وجوهكم؟ رحماك ربي مالهم يسيرون كموتى متوافدين للحساب).
يرى أسوار القصر من بعيد، لا زالت أفرع ست الحسن المزهرة تغطيها، تعجب وقد سلب خضارها عقله بعد أيام قطع فيها الأراضي المقفرة، ازداد الزحام فترجل عن الفرس ليسير وسط الجموع المستقبلة أبواب القصر، يحمل الجميع جرارًا صغيرة جدًا بأيديهم، سار مذهولًا حتى بلغ الباب ليسمع أصوات الحراس:
لا تتزاحموا؛ ماء العين تكفي الجميع.
استجابوا للتعليمات في خنوع عجيب، اخترق الباب، وقف مذهولًا ، أشجار وارفة تتثاقل أغصانها بما تحمل، الجياع يغضون البصر عنها في مشهد لا يستوعبه عقله، الجميع يتحركون فى صف طويل تحوطه الزهور من الجانبين ..
(ماذا دهاكم يا بشر؟ أاموات في ثياب أحياء؟).
يخطف بصره بريق أحمر فيمده ليراه، الوالي متربعًا عرشًا ظليلًا وسط حاشيته، يجاوره وزيره بآنية ذهبية ضخمة مملوءة بالماء، يمد الناس أيديهم بجرارهم الصغيرة فيملأ قدحه الذهبي بالماء ويفرغه في الجرار لتتعالى ألسنتهم بالدعاء له بدوام الملك، تسلل الغضب لنفسه فما يحمل من أخبار كفيلة بعودة الماء، اقترب من أحد الحراس وأخرج لفافة التكليف، أخبره أنّ لديه نبأ هام للوالي، يبقيه الحارس مكانه ويذهب للوزير ليهمس له بما كان، يترك الوزير مكانه على عجل ويذهب له.
-سيدي منذ ثلاثة أشهر كلفت وثلاثة من رفقائي باقتفاء مجرى النهر لمنابعه، لقينا من سفرنا نصبًا شديدًا حتى بلغنا جبالًا تحاوط النهر من الجانبين لنرى أحجار أحدهم وقد انهارت فسدت المجرى، سيدي ما مات رفقائي هباءا، إن بعث الوالى من الرجال أشدهم معي، وجهزنا بما يلزم لأزلناها جميعًا، بشر الناس سيدي الوزير..
أشار له الوزير بالصمت وتوجه للوالي مال عليه هامسًا، تغيرت ملامحه، صمت للحظات ثم مال على وزيره ناطقًا بكلمة واحدة قبل أن تعود ابتسامته الصفراء لتزين وجهه وهو يتابع صب الماء، أشار الوزير للفارس فوافاه بعيدًا عن الصفوف متهللًا مستبشرًا بابتسامة الوزير، اقترب منه.. اتسعت عينا الفارس ولم تقو آهته على تجاوز شفتيه وهو يتحسس السائل اللزج الدافئ والوزير يسحب خنجره من كبده في هدوء.