زمرة الأدب الملكية

ما أكثر الأقلام إن فتشت محصيها،، فيها العلم وجلها غثاء من حطب،، وريشة الفهم إن جئت تطلبها،، فدواتها نحن عرين زمرة الأدب..

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

قراءة _ بقلم: الأديبة / كنانة حاتم عيسى _ في قصة " الذي تفرون منه " بقلم: الأديبة السورية / منى عزالدين


 



التبئير والخطاب السردي في قصة الأستاذة: منى عز الدين


{ الذي تفرون منه


النص


******



لم أدرِ ما الأمر، فاجأتني بصرختها الخافتة حين تلقفت بكلتا يديها الصغيرتين البلبل عن طاولة العرض ، هممت بتوبيخها ..استوقفتني نظرات خيبة تفيض من عينيها على أناملها الدقيقة  المنهمكة بفرك  سطحه لاعنةً ألوانه وكأنها تستدعي ماردا فيه ليقضي على طلائه 


ابنتي ذات الأعوام الخمسة ومثل نصفها قهر.

تفتحت مداركها على الحياة لتجدني وحدي معها على أرض تنبت الخوف كل يوم، وترمينا سماؤها بالشواظ .

فنتدرأ بالهروب وننتعل الخوف.

أقدامها الصغيرة كانت تشخب دما، حملتها بيد وكيس أمتعة بيدي الأخرى  ومضينا مع غيرنا في نهر بشري 

أو هكذا كنا نظن، لكنه وللحقيقة نهر ماء ابتعلت الأرض نصفه، وتعلقت الأوساخ والأتربة ببعض روافده ..


كانت خائفة، وكلما أرخيت قبضتي حول خصرها من التعب صرخت في وجهي؛ أين أبي ؟ 


_ ينتظرنا هناك ياابنتي 

_تكذبين علي ثانية 

_ألا تثقين بي ؟!

أحنت رأسها وضغطت على شفتها العليا وهي تصوب نحوي نظرات  لوم، مررت  يدها الصغيرة على تضاريس صنعها الجلد المنكمش في خدها 

- حسنا يامشاكسة قلت لك ستختفي هذه التضاريس عندما نصل  وليس على الطريق

والآن عليك أن تسيري لأرتاح من الحمل قليلا 

- هذا الطريق يشبه وجهي مجعدا  ليته كان كوجه أبي

أو ليته كان أملس  كسطح بلبلي الأبيض 

قطبت حاجبيها من جديد 

_كذبت علي ولم تحضري بلبلي

_اصمتي قليلا وركزي في خطواتك ، سأشتري لك واحدا عندما نصل 

_أبيض لاتنسي 

لا أريده ملونا مثل الألعاب النارية


_اطمئني هناك حياة كلها بيضاء

فقط اصبري واستعجلي 


أبي انظر سوف أسير بسرعة كي ألتقيك في الحياة البيضاء 

_رددتُ مشجعة  

واحد  اثنان  ثلاثة 


أكملت قذيفة العد أربعة خمسة صاروا اشلاء على بعد أمتار منا، ومطر ملون حارق انهمر  


_لاتخافي ألعاب نارية انبطحي 

_كتلك التي أكلت وجهي .. اكره الألوان    أكره الألعاب 

ابتلع الهواء صوتها 


في صمت مهيب تحسست مكانا شاغرا أسفل جسمها وامتلأت بالدموع 

شقت صرختها الهستيرية جدر المشفى؛


_أمي  أمي 

أنا لا أثق بك 

ألعاب نارية أكلت قدمي 


طفرت من عيني شظية حرقت وجهي، التهمت الكلمات والتبريرات.


كانت الممرضة تمسح دموعها وهي تبدل الضمادات 

وراما تصرخ بأعلى صوتها  

وجهي قدمي 

أبي ...أين أبي ؟


مسح على رأسها بحنان وتابع عمله بإتقان 

-أبوك بعث لك بقدم والآن ستسيرين بها لتشتري لعبة من المتجر القريب


مشت بتثاقل وأمام واجهة المتجر ضحكت لبلبل أبيض يدور بسرعة فائقة 

جذبتني من يدي ودلفت مسرعة وهي تردد 

_ وأخيرا صدقتِ إنه البلبل الأبيض


كان من الصعب أن أشرح لها أنه ملون لكن دورانه السريع جعله بلون البياض 

أطرقت عجزا  وهي تصرخ 

إنه ملون كتلك الالعاب النارية 

هل نحن مازلنا هناك .

لاتجيبي 

أنا لا أثق بك ولا بالألوان


تمت


 منى عزالدين /سوريا


********


 

في هذا النص ،نرى رقصًا موجعًا بطله الخطاب السردي، يبدأ بعبارة استهجان مقصودة، ورمزية إنسانية موجعة

تثير قلق القارئ ونزعات نفسه في البحث والاستقصاء عما يحدث وعما سيحدث. وقد انطلقت الكاتبة من بناء 

شخصيتين عنيدتين متشبثتين بالحياة الظالمة وببعضهما البعض، و استطاعت أن تصور بانتقائية مدهشة حلم النازحين والناجين من ويلات الحروب(الألعاب النارية)  ب 

البلبل الأبيض)  الذي يختصر أحلام الطفولة البريئة ومعاناتهاالحتمية في حرب قاهرة تلوك الأرواح قبل الأجساد ولا تميز ملامح الطفولة وبراءتها في تدميرها القسري لروح الإنسانية الغائبة.


بدأت الكاتبة الاستهلال بمقدمة غامضة عن طفلة تلهو ب بلبلٍ، باحثةً عن سكينة مؤقتة، لتدخل القارئ بلغة جميلة وأسلوب شيق مكان السرد الموصوف بدقة وتخبره عن زمان  متكرر المذاق والطعم،  فيشع الحدث من المتن في الحوار بين الطفلة  التي تعاني عذابات الحياة وبين أمها التي تزين لها بيئة مدمرة مشوهة فلا تسعفها الأكاذيب الجميلة في تلوين واقع مدمر متهافت لا يرحم

وننظر للحوار التي خلقته الكاتبة بدقة شديدة وهو يصور

وحشة الطفل الإنسان، المنعزل المتوحد، إزاء العالم الوحشي في صممه الأزلي عن نداءات الطفولة البريئة ، ليلملم أيضا  في طريقه معاناة الإنسان العربي العابر بآلامه والهامشي بوجوده والمنسي بمعادلة موته وحياته.. وننظر لجوهرية الخطاب الغير المباشر بين الشخصيتين:

وهل يوجد أمل للطفولة المشوهة و المعاقة ب(تضاريسها) ؟ 

_أبيض لاتنسي 

لا أريده ملونا مثل الألعاب النارية


_اطمئني هناك حياة كلها بيضاء

فقط اصبري واستعجلي 


استخدمت الكاتبة مفهوم التقابل بين رمزية حياة السلام والنصع واللون الأبيض  وبين الألعاب النارية التي تعتبر مظهرًا من مظاهر الاحتفال ولكنها احتفالية الموت والفناء  وليس فرح البدايات الجميلة.

ينتقل المكان ويغير الحدث طبيعته بتغير الحوار، فالطفلة وقعت فريسة القذائف في رحلة الهروب من الموت إلى الحياة، والمكان(المشفى) أصبح  شاهدًا على عذابات الطفلة التي فقدت قدمها، في نفس الزمن العائم الذي أبقى على سوداوية المشهد، وغلفه بغموضه. 

، تعمدت الكاتبة حصر الحدث بتئبير عميق، التصق بمفهوم الطفولة وزمن الحروب وكيفية تعامل الوعي الإنساني في لحظة التنوير المطلقة، حيث تتكاثف عناصر السرد وتنطلق باتجاه بؤرة الحدث


_أمي  أمي 

أنا لا أثق بك 

ألعاب نارية أكلت قدمي 


وبالطبع فالكاتبة المبدعة لن تترك المتلقي مشدودا بوجدانه لمنظور الطفولة والأمومة بأفكارهما النمطية، المتوقعة، بل ستتابع رسم ملامح النهاية المدهشة،بالأم التي تجيد الكذب الأبيض وبالطفلة التي فقدت ثقتها بالحياة ، بالألوان الجميلة و بقدسية حكايا الأمومة وعذوبتها. 

لا نجد لغة متكلفة مقعرة ولا نرى تناوبًا أو  تقطعًا في 

المشاهد، لكننا نرى (أن ما نفر منه كلنا)  هو ضمير مستعار لا يمت للإنسانية بصلة، يشبه البلبل الملون  الذي لن يثق به الأطفال الناجون من حروب قتلتهم رغم بقائهم علي قيد الحياة، لن تنزع من أرواحهم تلك الشروخ النفسية الغائبة والحاضرة  كأب الطفلة (راما) الغائب بحضوره والحاضر بغيابه. 

إبداع مدهش... وأسلوب مذهل وقصة لا تتكرر



*********


كنانة حاتم عيسى











































عن الكاتب

زمرة الأدب الملكية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

المتابعون

Translate

جميع الحقوق محفوظة

زمرة الأدب الملكية