زمرة الأدب الملكية

ما أكثر الأقلام إن فتشت محصيها،، فيها العلم وجلها غثاء من حطب،، وريشة الفهم إن جئت تطلبها،، فدواتها نحن عرين زمرة الأدب..

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

« مجموعة قصص قصيرة» _ بقلم: الأديبة / حرية سليمان _ في برنامج " تحت ضوء الشمس " إعداد و تقديم: الأستاذ / محسن الطوخي و الأستاذة / الزهرة الصالح


 


« مجموعة قصص قصيرة »    


 بقلم الأديبة: حرية سليمان  


 في برنامج " تحت ضوء الشمس 


إعداد و تقديم:  الأستاذ: محسن الطوخي 


 و الأستاذةالزهرة الصالح 



---------------



حرية سليمان  كاتبة من طراز فريد. تبدع بنفس الطريقة التي تتنفس بها. وأغلب الظن أنها لا تدرك مافي أدائها القصصي من إبداع، وأصالة. هذا هو تفسيري للطريقة الهادئة الناعمة التي انسحبت بها من عالم الإبداع. حاولت غير مرة حثها على العودة إلى القصة القصيرة. ولا يبدو أنني أفلحت.

التحقت حرية بالجروب في مرحلة أمانة القصة، فهي من المؤسسين. لم أر لها أي كتابات في القصة منذ ٢٠١٣. لكنها تركت في الجروب تراثا مميزا يتضمن أحد عشر نصا على الأقل هي:

نخطىء حين لا نبكي

بحيرة .

أسيل .

طعم التوت

احتراق .

ترويض .

قشعريرة .

انفلات .

صلاتها الأخيرة .

مسالة وقت .

حلم غير قابل للتأويل .

وهي نصوص تمثل علامات مميزة في فنيات السرد في القصة القصيرة.

سأختار من بين إبداعاتها أربعة نصوص، ويمكن لمن يرغب في التعرف على بقية القصص الوصول إليها بالبحث في الأرشيف.

تحياتي للمبدعة حرية سليمان. وسأنتهز الفرصة لتكرار دعوتي لها إلى معاودة نشاطها في كتابة القصة القصيرة، فهي في ظني واحدة من فارسات الإبداع، لا يشق لها غبار.

تمنياتي لكم بقراءة ممتعة ...

_________________  


بحيرة ..


قصة قصيرة/ حرية سليمان


************


لسنوات متصلة ظل يأتينى برغم  استحالة العودة .. واستحالة رؤيتى له من جديد لفقدانى البصرولكنه بالفعل تغيركثيرا..  ثقلت حركته، اختلف صوته، انكمش كعجوز مثلى تماما، وهذا ما أدركته حين ضممته لصدرى، يمكننى تحسس عظامه كما يمكنه فعل المثل معى ، صرنا أقرب لهيكلين عظميين نمارس رياضة نفسية من نوع ما، لم يعد يميزه الا استحالة أن يكون أحدا غيره ، من سواه يأتى بتلك الظروف، من تراه يرسل هذا الصوت وتلك الدوامات الندية من الذكريات، كان  الخوف من فقدانه هو الشيطان الذى يزورنى ليلا وكالنزناز يباغت غفوتى ويبطل صلاتى ويفسد تسبيحى ويحيلنى ماجنة بانتظار توبة  ويستحيل هاجسا ينقر مخابئ الذاكرة الوهنة فيستدعى تلك الصورة للزمن الذى رحل متسربا بين جدائل  تلك الزرقاء الهادئة التى طالت غفوتها ورقادها وتنتظر الآن قبلة حياة ، أصر أن يكون فصلا جديدا من فصول البوح برغم جفافها  وانتظار ما ستهبه  بعد انتهاء صومها إن قدرت لها الحياة بكل صبر وأناة  برغم تمزق النسيج المتقاطع للِشباك المتوسدة جدران البيوت والمفترشة الممرات الساكنة والأحجار الجيرية بين الطرقات ، أى خيط جرئ الآن يقدر على لملمة أجزاءها وقد تفرقت وتباعدت واهترأت كنسيج متحلل ،  وصار كل فتق فيها بطول ذراع وعمق ذراعين ،ولكن برغم جفاف الصورة وشحوبها إلا أن صيحته تشق دوما وحشة السكون و تبارك ولادة الخيوط الأولى للفجر  فتعود لى الروح من جديد فأنفض غبارا ثقيلا لزجا عن نفسى  وأعربد فى الفراغ المتسع للحجرة بحثا عن عباءة سماوية بلونها لأرتديها و قطعة قماش بيضاء لأشير له بها وكشاف ضوئى ان فكر مرة بالمجئ مبكرا على غير المعتاد  .

  مسرعة أدس نفسى بعباءتى الزرقاء ، حافية أقطع الحجرة ، أحرر المزلاج ، أركض باتجاه الخارج وأتنفس ، أشير له تارة برقعة القماش البيضاء أو أرسل تلك الومضات المتتابعة بشكل دائرى باتجاه عقارب الساعة أحيانا وأحيانا عكسها  ، لأتفاجأ به فوق رأسى ينقرمابين فراغات الشعر ،  كان لزاما على أن أصدق بأنه عاد  وأنه قادر دوما على الرجوع وقتما شاء .. برغم انعدام قدرتى على تتبعه كما بالماضى  كفتاة عشرينية  جموحة على حافة زورق مستعيدة توزانى بلحظات ، كانت تلك الحلقة الحمراء مايميزه عنهم جميعا أيامها ، ثبتها( يونس)  بطرف قدمه اليسرى ، وصارت علامتنا المائية التى تميزثلاثتنا عن غيرنا من الباحثين عن أنفسهم بالغيروالموقنين بفكرة التخاطر أو التلاحم أو الاستنساخ أو  أياَ كان المسمى  .. والآن لم يعد منهم سواه وصارت الحلقة كخاتم زواج يربطنا أبداً .

   وجدتنى أجدف بقارب فى بحر من رمال ، أجدف فتعلو ، أجدف فتعلو، يكشر عن أنيابه  بموجة غاضبة تصر على ابتلاعه وتفعل ، فيعود يظهر ثم تلتهمه من جديد  ويظهر ثم تعلو لتلتهمه ويعود أخيراً لا يظهر، كان المجداف على السطح هو الإشارة الوحيدة المتبقية لقارب ما كان هنا واختفى ، لا إشارة لكائن حى نافق أو بانتظار الموت ، قلت له يومها سيحل الجفاف ، نظر إلىّ وتهكم ، قلت : لا تعرف رؤاى ، أخبرتهم بعودة  (مطر ) وعاد ورحيل (جمال) ورحل ، أخبرتهم بولادة( خاطر) ووُلد وموت (ياسين) ومات ، أخبرتهم بجنون (سعاد ) وجنت  وزواج (غرام) فتزوجت،  أخبرتهم عن جنية سيأسرك جمالها وقد كان ، ألم تخبرنى بأنها عشقتك لثمان سنوات متصلة بعدها ، كنت تضاجعها يوميا فتلد لك صباحا غلاما جميلا كانتشاءات الربيع ، كنت تضحك منى ، سألتنى وقتها وماذا  بعد فوجمت ، أظنك أدركت أنك ستفارقنى ، وفارقت  .

 غائمة كانت هى الشمس يومها ولم أجد بى رغبة فى  اقتفاء أثرها ، ربما كانت هى من يفعل ذلك فتتجنبنى ،  لم تصدر ماينبئ عن شروق مميز منذ زمن بعيد ، كانت قديما كعروس بليلة الحناء ، مشتعلة الوجنتين دافئة المشاعر موحية بقبلة ، كانوا هم الآخرون يتندرون ، ويتصعلكون بالنواصى متفكهين بعد أسبوع حافل بالبحيرة  .. يتبادلون السجائر والنكات والطاولات

لم نتعود الجفاف ولا ندرة الأسماك ، لم يكن الطعام حتى بمشكلة ، يمكنك أن تتخذ قاربا من تلك القوارب المسترخية بعيدا بالشاطئ والذهاب هناك ولن يسألك أحدهم عن وجهتك ولا حتى لمن هذا  القارب ، جدف لأى عمق كان  ، أو فلتبق على الحافة ، كنا نشعر حركتها بالأسفل تتحرك بين أقدامنا ، تندفع وتتداخل فتخمشنا قشورها  وزعانفها ، كم كانت أعدادها كبيرة وهى تهرب بكل اتجاه ،  كنا نذهب معا ، أمسكت يدى يومها ، أحسست بدفء القاع ونعومة الطمى وانحساره تحت قدمى ، اقتدتنى مسافة كبيرة للداخل ، كان يحلق فوقنا ، أتذكر تلك النظرة الثاقبة بعينيه واندفاعه نحوها ، اظنه اختفى لثانية وعاد وقد امتلأت حوصلته ، أتذكر نظرتك لى وانت تدندن ذاك اللحن اليونانى لزوربا ، قبلتنى ، تركتنى وتسربت كما الحلم للداخل ، مازال لحنك يداعبنى ، منحتنى ركلات قدميك بعض القطرات بين شفتى بينما انخرطت ضاحكا واندفعت للداخل من جديد ، بدت ملامح البحيرة ممتدة كما السماء يعانقها خط الأفق ، يعكس بريقا فضيا مثيرا ، ظهرت رأسك من بعيد ككرة تسبح تطفو فوق الماء ، كنت أناديك ، كان يحلق فوقك ، كنا نتتبعك ، لكن ماعدت ، وعاد هو ..

  عندما بدأوا يخرجون ثم لا يعودون قلت لك أنها غاضبة ، اختفى الرجال ولم تعد النسوة يفتحن الأبواب ، احترفن غلقها بالمزاليج ، كن يتلكأن حين نقرعها لنسأل عن من خرج ولم يعد ، كن يخفين الطاولات ويتجنبن الشواء  والحديث والابتسام وكل شئ ، صارت الريح تصفر مرسلة صخبها بلا انتهاء ، تضاجع الأبواب والشبابيك يوميا بنهم وتنفذ عبر مسام الِشباك ممزقة أحلامها بالاحتواء ،  أخبرتك أنه الجفاف آت،  لكنها كانت تحبك وحتى عندما أسرتك لم تعذب روحك وأطلقتها بسلام  ، كنت حبيبها وفقط  ، أما هم فقد احترفوا  الكذب فذهبوا وما عادوا ، ليتها عرفت ذلك فأعادتك لى ولم تأخذك بذنبهم ، كان هذا موسمها الأخير لأنها بعدها صمتت للأبد .

_______________  


أسيل ..


قصة قصيرة/ حرية سليمان



الرجل الذى التهم قرص الشمس يعود من جديد ، كان كلما ولج الزقاق بخطواته المتسعة أسرعت بالركض خلفه ممسكا بطائرتى الورقية الملونة متحفزاً لموسم من التحليق ، كانت أمى تعنفنى لذلك ف (بكر) بحاجة لى للإمساك بدلو الطلاء و (سندس) اقترب زفافها وقد اختارت لونا غريبا لحجرة نومها ، لكنه آت من بعيد ، تركت الدلو بمحتواه الجيرى وأسرعت خلفه ، نفس السترة الكاكى بالأزرار النحاسية اللامعة ، لكن بالقدمين حذاء جلدى برقبة عالية ،  لم تكن تلك الآلة  الوترية الضخمة  تعانق صدره كالمعتاد ولم يكن لحنا حادا غير متكافئ النغمات وانما كانت آلة أخرى غريبة  المظهر ينتهى طرفها المدبب إلى شفتيه  وتصدر صوتا رخيما كلما تمددت أوداجه ،  كان هو من يخترع تلك الآلات ، يلملم أشياءها ويلصقها بنوع خاص من الغراء ويمدد خيوطها أو ينحتها وينحت أزرارها ومفاتيحها ، كان يجيد ذلك كما يجيد صنع الطائرات  الورقية ، صنع لهم طائرات جميلة وكانوا لا يتبعونه مثلى بكل هذا الفضول أما طائرتى فكانت أكبرهن وأكثرهن تداخلا بالالوان والصخب  ، كانت وحشا أسطوريا أروضه بعصا   تنتهى ببكرة دوبارة ، كنت انتظر التهامه القرص النارى لنبدأ التحليق معا ، ما كان عليه الا أن يمد يده وأن يمسكه  بطرفى  سبابته وإبهامه و أن يفتح فيه ثم يلقيه مسرعا فينزلق باتجاه حنجرته  محدثا لا شئ ، لا تلتهب حنجرته وأمعاءه  فقد اعتادتا  مذاق برتقاليتها وانسياب ذاك العصير الحارمتسللا  لبطانة جوفه  الناعمة بينما يغمز لى بنصف عين مشيراً بإصبع مشهر أن تلك التى تدغدغ معدته ليست كتلك التى تلوح لهم  يوميا فتلهب جلودهم  وتسلمهم لأنهار من العرق بلا لذة وتجلدهم بسياط من سعير ، هذا الرجل مازال يجادلنى بلا صوت حين يلمح ارتيابى وشكى فى أن جسده الفارع  المتسع الصدر المكتسب سمرة  مدهشة كان ناتجا طبيعيا لشذراتها الساخنة  فهو لا يشبه أجسادهم  الرخوة وأنه يملك مالا يملكون  من مفاتيح  سعادة وهمية  وأنه وحده قادر على السير فى الهواء والأرجحة ما بين نوافذهم وأبوابهم  وأعمدة شرفاتهم متسللا بسلاسة ونعومة ضوء قمرى بكر لم يمسسه سوء ، الرجل الذى اعتاد المرور مابينهم وبينهم بحيث لا يرونه  فقط كان يمر ليبتسم وليقرؤهم السلام  وليضحك منهم و فيهم ، هذا الذى جاء من هنا كالنسيم الرطب بليل سبتمبر فجفف عرق جباههم وترك سيلا من بركات وبقايا رائحة من مسك هو نفسه الذى فاجأهم كإعصار غضوب  مستنكراًحين لوحوا له مرة غير مكترثين فلا هو ذاق طعامهم ولا مسته مياههم الباردة بأمشير ولا الحارة بحواريهم الضيقة حين تقتاتها أشعتها النهمة فيتمددون بالظل عراة حفاة  بانتظار نفحة ربانية  ومرور ملائكى التأثير،  لكنه عندما تكلم عنها  بالذات ( أسيل ) أجاز العبور إليها بلا جواز سفر ولا تأشيرة ولا لائحات دولية ، فقط كان يقول أنها كلما مشطت شعرها تسلل سرب من أقمار وكانوا فقط يتهللون فاغرى الأفواه متسعى الأعين  ، فمابين أقصوصته الجميلة وما يتساقط  عليهم من أقمارها  الليلكية كان السفر إلى المستحيل .. ليست كنسائهم أبداً .. ( أسيل ) تملك من المرمر ما يصنع ألف منحوتة لإيزيس ، لا تتعرق حبيبته فما يسكنها من مسك لو تفرق على البنات لتراقص ميزان الكون بهجة وحبور، لا تتحدث بحروف كالتى يتواصلون به ويطلقون عليها كلام ، كانت الحانا عذبة تغازل النجمات فى السحر فيستحلن أقمارا وفراديسا ، لم يكن ريقا ذاك الذى يجرى بفمها وانما ماء زلال وترياق أوجاع ، كانت رائحتها قادرة على تشكيله وعنونة أحلامه  وملء فراغ ضلوعه بما لا يحتويه صدر بشر، كانت تسأله هل للأحلام  مواسم وعناوين فيجيبها 

ـ إنها أنت ِ 

كان فراشها الغيم وكان كلما نام تسللت لترشقه قبلة خاطفة لتختفى بعدها فيأتيه صدى ضحكتها

كانت ضحكتها تبدد ليله السرمدى وكم خيل إليه بيقظته أنها تجاوره  بجسدها الدافئ  الطرى فيستدفئ بالأنفاس وتذيبه الهمسات  ويلفه شعرها الأسود  الذى هو ليل بهيم  فتمطره الورد واللؤلؤ والرحمات ..( أسيل ) حين تقترب تفسد عليه عذرية سكونه

فينتفض كمارد  أفلت من قمقم سكن غيابات الجب فيزيح عنها أبدية الستار فيزيح رداءها من قبل فيلمح منها ما لا عين رأت ويسمع منها ما لا أذن سمعت  ولا خطر على بال بشر وأنها كانت توشوش له وهو متكئ الى فخذها بأنها منحته الأبدية ، وانه مابين شفتيها سيل من كلمات محلاة بالعسل والياسمين

،همس بأذنى ولم تكن تجاورنا الا ظلالنا وكنت أتمدد إلى جواره  مستندا برأسى لظهره  مداعبا خيط طائرتى  متأملا تحليقها البعيد ، كان يضبط إيقاع الآلة  قال موشوشاً أنها كانت تدق الأرض بكعبها المخضب بالحناء فيفيض النور ، قلت له  مبتسماً أننى رأيتها بأم عينى هاتين تحمم الجواد الأسود بترعتنا الكبيرة  ، أقسمت له انها هى وأننى لم أميز وقتها هذا الخط الفاصل بين شعرها الفاحم وذيل الجواد الأكثر دكنة فقد تشابكا وكانا يطفوان على السطح ويتماوجان معا ، وأننى لم ألمح بدقة الا لونا فضيا آسرا لرداءها الشفاف الذى التصق بجسدها المرمرى ، وقتها لم أكن لأظنه إلا حلما رتلته لى الجدة قبيل نومى كعادة يومية حين التصق بحضنها الرحيم، لم يكن الشك ليفارقنى أبداً إلى أن قطعه صهيل الجواد وارتعاشة الجسد  الندى مستضيئا بالقمر ،كذبنى  بوجه عبوس لانها لا تظهر الا له ولم تحمم  مخلوقا إلاه منذ خلقت فهى ( أسيل ).. أجبته بأن الحوريات يظهرن فجراً لمن يريدهن  فنفى بنظرة غاضبة فما من بشرى يعرف قدر ( أسيل ) ليستحقها  فوجمت  .. عندها لم نتذوق الا الصمت وكان الوقت يمر ثقيلا كمضيف ملول ..وخزنى باطن قدمى العارى ففركته ولم يمنحنى اكتراثا وحين تهاوت طائرتى وتهتكت ألوانها ظل يشيح بعيداً للمدى ، وغادر بلا استئذان ، غريب أن تغير الريح مسارها فقط لعبوسه وأفقد بعدها متعة التحليق.

بحجرة سندس كان بكر يلملم أشياءه  ويهم بالذهاب ، أدخل متباطئا أجرجر ما تبق   من الطائرة  وبعض  من خجل يعترنى  ، يجز على أسنانه ويواجهنى غاضبا ، وقبل أن  أنطق بكلمة واحدة ينهرنى فأتركه متجها لحجرتى ، كانت (أسيل ) تشغل حيزا كبيرا من تفكيرى ، لا ادرى لماذا اتجهت فجراً لحجرة (سندس) ممسكا بعض ما تبقى من ألوان الدهان ، دعوت الله ألا يفاجئونى بالداخل ، كنت سأهدى سندس شيئا لم تكن لتتخيله أبدا ، كانت الصورة لتتشكل من تلقاء نفسها ، إنها ( أسيل )


___________________  



طعم التوت ..


قصة قصيرة/ حرية سليمان



ـ لم تتغير عبده ، أعرف ، ولن تتغير .. اغتسل وصلي

تقولها وتزفر ..

توقفت أمي عن معاملتي كصبي ، كانت تدرك أننى غادرت الطفولة لاعنا نحولي فرحاً ببعض شعيرات خشنة متفرقة بذقني وفوق شفتي ، كانت تخشى عزلتي و تدفعنى لقراءة القرآن وتحثني على المواظبة على الصلاة بزاوية الشيخ المنجي والكف عن الحملقة بالفتيات الرائحات والغاديات أمام الدار .

لم تكن لهن روح رقية ، ولم تكن أي منهن كرقية ، ولا زالت أمي تردد جملتها وتغضب حين يأتينها شاكيات ..


أسبوع من المعاملة السيئة وتجنب الحديث بعد أن ضبطتني أختلس النظر لها عندما كانت تركض بصحن دارنا وكنا صغارا يسحرنا الحصاد وطقطقة القش بالتنور ومناغاة اليمام ، أمسكت بطرف جلبابها وحجلت فظهرت ساقاها بيضاوان كالشمع ، إرتج برعماها ، كنت مبتسما بالباب حين لمحتني فتوقفت عن اللعب وتركت جلبابها متذمرة واختفت .

كانت تكبرني بعام و كنا نلعب معا ، تجري البنات والاحقهن ويتمرد صدري فأسعل بنوبة ربو قصيرة فيأتين مهرولات .. كنت ألمح الجزع بعينيها فأبتهج وأتمارض لتطول النوبة حتى أننى سمعت دقات قلبها الفزع ، مؤخرا أصبحت تفضل الاحاديث الجانبية بحجرة هند وفاطمة ، أحاديث أقرب للهمس لا يصلني مداها ، فاجأتهن مرة ودخلت عليهن بئر أسرارهن لأميط اللثام عن شغفي لأجدها متربعة كالبدر بفراش فاطمة ، لم تكد تمر رأسي حتى صرخن وهاجمنني كخلية نحل ودفعنني للخارج ، وجودها كان يبعث نشوة تشبه قطف التوت الناضج من شجر الفاجومي، سألت أمي عن سر احتجابها فوجمت وباغتتني بنظرة غاضبة وقالت :


ــ ما الذى يهمك من كونها تتجنبك ، للبنات سترلا تخدشه بفضولك .


كان ارتطامي بهما غير متعمد أو هكذا ادعيت ، كانا صلبين نافرين كتلةٍ صغيرةٍ ببطن جبل ، سرت بى لفحة ساخنة واندفع للساني طعم التوت الحلو ، تعرقت وارتبكت وانسحبت باكية ولم تلتفت لندائهن ، توقعتها تخبر أمها وبدورها تخبر أمي فلا تقوم لي قائمة ، لم يكن ليهنأن بخلوة إلا بعد أن يأتين ببعض ثمار الفاجومي ، كان بامكاني فعل ذلك ولم يكن ليمنعنى الفاجومى نفسه ، لا لقوة وتبجح وانما كنوع من الرأفة بصبي سيرهقه تسلقها بعد قذفها العبثي بالحجارة .. كنت أرسلهن فيعدن بصحن كبير ممتليء ولذيذ .. فيهنأن بالخلوة وأهنأ بالخيال بينما تهرس أسناني التوت .. كبرت رقية ونضجت تفاحتاها وصارت أهدأ حركة وأجمل صورة .. رقية أصبحت شجرة توت ..

تمر الليالي وتركض الأصبحة

أسأل ضابط الحدود عن أرضنا التى نحرس رملها ولا تنبت توتا فيجيب لمن هذه الأرض يا عبد المؤمن

قلت : لنا

قال : ولأنها لنا فهي تنبت أكثر من التوت

ثمار الفاجومي كانت لنا برغم توسطها بقعة شرقية على البحر الصغير تبعد عن بيتنا مئة متر .. والأرض لنا لأنها تنبتنا كما تنبت الأشجار

جاء صوته يصرخ

ــ أمك تناديك يا عبد المؤمن

لم نتبين غير ارتعاش القمر .. وصوت عبورهم .. يخفينا التل ، يقترب الطابور الأسود ، الأرض لنا ، الفرن ، خبز الرحمات ، دخان التنور ، الشجر ، التوت ، اليمام ، الساقية ، الطريق ، الرمال ، القمر ، الشجر ، التوت ، التوت ، التوت ولا شيء لهم

جبينه الأسمر يلمع ، يركض خارج الساتر .. يتوسط التبة

ـــ ماذا يفعل .!!

ــ يخرجهم

ــ وحده .؟!

ــ كلنا نفعل

ــ أمك تناديك يا عبد المؤمن ، أمك تناديك


فقد الظابط ساقيه فمنحوه وساما ونجمة ، مات مرعي وجبريل وسليمان ، لم يعد الحسيني ونجم وغالي .. علقوا مكانهم النجوم والنياشين والأوسمة على الجدران .. تزوجت رقية ولم أذق توتها ولم يكن لي غيرنجمة ووسام .. لكن القرية حكت عنا .


_________________  



نخطيء حين لا نبكي

 

قصة قصيرة/ حرية سليمان



لم أنظر إليه حين خلع جلبابه وتصنعت الانشغال بالماء حتى لا أسبب له الحرج..فله ثديين كبيرين، أشرت له بالمتابعة؛ فتقدم متباطئًا بخطوات حذرة، كادت قدماه تنزلقان للزوجة الطمي على الحافة، ألقى بجسده في الماء وأحدث جلبة وفوضى كبيرة؛ ضحكت، بدا منزعجًا من رد فعلي، كانت المياه دافئة لحد كبير، صار بالنهاية مستمتعًا وسعيدًا وبدأ بفرك جسده وإبطيه وهو يغني، التصقت قصته بجبهته وتورد اغتباطًا، لا أدري سر انجذاب الكلاب لمنطقتنا، بدأت بالتوافد، اقتربت من ملابسنا على الحافة، لم يلحظ ، لم أتوقع أن يجري أحدها بجلبابه بين فكيه مسرعًا وبداخله سرواله، لم يفطن لما حدث ولم أشأ أن أخبره، عندما انتهينا دلف للخارج باحثًا عن ملابسه بين البوص والأحجار على الحافة ولم يجد لها أثرًا، تصنعت الدهشة وقمت بالبحث معه وبداخلي شعور بالسعادة لا أعرف له سببًا، غالبت الضحك كثيرًا ورسمت بعض الدهشة، وكنت أسرع منه في البحث متصنعًا البلاهة:

طلب مني الإسراع بالذهاب وإحضار جلباب آخر دون إثارة الانتباه؛ فقد حذرتنا أمي مرارًا من الذهاب هناك؛ لكون الهويس خطرًا حقيقيًا وله ضحايا عند اشتداد التيار، تركته بالماء وارتديت جلبابي مسرعًا ووعدته بسرعة العودة، لم تكن المسافة بالطويلة أو القصيرة.

قدرت الوقت بعشر دقائق.. لولا إصرار "ياسين" ابن عمي على الذهاب معه لساحة بيتهم لنراقب عراك الديكة وتساقط الريش وتطايره.

انتبهت أنني فعلًا أضعت الوقت وقررت الركض حتى البيت، فوجئت بأمي على الباب تتلفت يمينًا ويسارًا بانزعاج شديد.

أخبرتها ما حدث ؛ فشهقت عاليًا واصفرّ وجهها، صرخت وضربت صدرها بكفها، أمسكت أذني بشدة تقرصها بلا هوادة، كادت تنخلع من رأسي، اقتادتني عنوة أمامها، دفعتني بلا رحمة غير مهتمة لتوجعي.

وصلنا حيث كان وقد أظلمت، كان قد أصابه الإعياء وملّ الانتظار، وجدناه بالقرب من الحافة ممسكًا بالنجيلة على البر، عندما لمحها تراجع خطوتين للوراء ونزل بكامل جسده بالماء وبدا مرتعشًا، أصابته القشعريرة فأغمض عينيه وأجهش بالبكاء، اقتربت منه بهدوء، بلغ الماء نصف ساقيها ولم تهتم للبلل الذي أصاب ملابسها، استمرت فقط تقترب، ناولته جلبابه الذي التقطه مسرعًا مرتعشًا، ارتداه بسرعة وقام منتصبًا، ضمّته لصدرها حتى هدأت أنفاسه وتوقف عن البكاء، نظرت لي وضمتني أنا الآخر؛ سرت تلك الرائحة الحميمة بي، دمعت عيناها، قالت محذرة إنها لن تسمح لنا أبدًا بتَكرار ذلك، وإن العقاب الأكبر سيكون عسيرًا إن علم أبي بالأمر، ذكرتنا بالجياد النافقة عند الهويس.

يومان متتاليان أراه بالحلمِ راحلًا وأحاول اللحاق به بلا فائدة، لا يسمع صوتي ولا أسمع إلا صوت خطواته البعيدة على الطريق، ينفذ عبر ممر ضوئي يشبه تلك الهالة حول القمر، يلج بهدوء، يمر بلا أدنى مشكلة ولا يعوقه شيء أبدًا، بعدها انغلقت الطاقة، وجدتها حائطًا أصم بعدها، ولم تمرر حتى يدي، اختفى خضر ولم أجد له أثرًا بالحلم؛ قمت فزعًا من نومي، كانت أمي إلى جواره تضع الكمادات الباردة على جبينه، دعوت الله له باكيًا بالشفاء فاستجاب



••••••••••••



حرية سليمان






















عن الكاتب

زمرة الأدب الملكية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

المتابعون

Translate

جميع الحقوق محفوظة

زمرة الأدب الملكية