« من أوراق الذاكرة »
إعداد وتقديم: أ. جمال الشمري
« أوراق من الذاكرة »
الأستاذ والأديب: محمود حمدون
••••••••
نقدم لكم اليوم كاتبا مصريا في إتحاد كتاب مصر
قرأنا له قصص الحياة والواقع بكل بساطة وتجرد
لامسنا فيها هموم الناس ولمسنا بكل شفافية أفراحهم وأحزانهم
إنه الكاتب الجميل الأصيل المبدع
أ. محمود حمدون
وفيما يلي نبذة عن سيرة حياته خطها قلمه المتميز
" دابة الأرض "
محمود حمدون
===
راسلني صديقي الافتراضي منذ برهة,
الحق أنني لم ألتقه من قبل,
غير أن الوُّد متصل بيننا, جاءت كلماته تترى, تحمل دفئًا أفتقده منذ فترة. ألقى بسلامه, أخبرني أن: القوم بالخارج ينتظرون قصة منك, تحمل عبق ذكريات الماضي الذي عشته, نستشفّ منها معاناتك, كيف أثّرت على قلمك! فقلت: حيرة هي وأي حيرة.
فردّ: لا حيرة أبدًا, وليس ثمة مكان لها. فأعقبت: بل حيرة أن أكتبني, فأنا اعتدت كتابة الناس, أن أنغمس بهمومهم, أغوص دون مرشد في أعماق محيطاتهم الداخلية المظلمة,
أصل لشطئان لا يعرفون هم بوجودها,
فكيف تطلب منيّ أن افعل هذا بنفسي!
فردّ برفق: صحيح كلامك, أتفق معك, غير أننا نصرُّ على طلبنا,
سأقف بالخارج على بابك أنتظر, أزعم أنني لن أنتظر كثيرًا.
ناديته أن أمهلني فترة كافية, غير أنه لم يجب, لكني بقي ظلّه يخايلني في حجرتي,
تدبّرت ما قال فرأيتني وقتها كتلك الفراشة اليتيمة التي تدور في حلقات حول مصباح إضاءة في سقف الغرفة, لا فارق بيني وبينها,
بل لم يكن ثمة فارق من بدايات النشأة, فالدوران حول محور وهمي, هي آفة لا زلت أدمنها,الغوص المستمر ببئر ذكرياتي هي متعتي الوحيدة جوار فنجان قهوتي.
بيني وبين الناس منطقة حرام كتلك التي تفصل بين الجيوش المتحاربة, لا يمكن لاحد تجاوزها إلاّ بإذن, لا يمكنني عبورها من تلقاء نفسي حتى لو أُذن لي,قد عزوت ذلك لحالة يُتم مبكرة ,
فالفقد يعني أن المركب تشق أمواج البحر بمجداف واحد, حينها يكون الجهاد فوق الحد, الجهد المبذول يتجاوز المستطاع لدى الغير. حينها تصبح القراءة هل النافذة الوحيدة للفرار من الواقع.
رأيت القراءة عالمًا سحريًّا أحببته, لعلّي أول من توضأ قبل أن يقرأ رواية للعظماء وأقصد بذلك, نجيب محفوظ, يوسف ادريس, غيرهم, وبشكل خاص الادب الروسي ما إن أدلف إلى صفحات الكتاب حتى يتبخّر وجودي وأصبح طيفًا يتنقل بين أبطال الحكاية, أعيشهم.
رأيت القراءة هي الخلاص, المُنقذ, المُخَلِّص من زيف الواقع, و وهم الحقيقة. لطالما نصحتني أمي أن أخفف من قراءاتي, قالت لي بيوم صيفي حارق: المخدر يا وليدي هو كل ما يُذهب بالعقل, ياخذه لبعيد عن حقيقة عالمه, القراءة تفعل ذلك, فرفقًا بنفسك, استمعت إليها, لكنني لم أتجاوز عتبة مفردات نصيحتها, عُدت لسابق عهدي,قرأت كدودة تنخر بنيانًا كي يخر على رؤوس من فيه.
بل كدابة الأرض, تمرّدت بعد آلاف السنين وقررت أن تقرض منسأة العوز, قد فعلت وأزعم هذا, بل أوقن, طول حياتي التي تجاوزت منتصف العقد الخامس ,
لم ألجأ لمفردة تحض على اليقين أبدًا, بل آثرت دومًا , الزعم , الجزم, الظن,لكنني حينما أستعيد عالم قراءاتي ببواكير الصبا أقولها جهرة: أوقن أنها كمَثَّال, نحتت بداخلي ذكريات, أستعيدها الآن بشكل سردي,
أنها تقف وراء كل ما وصلت إليه, على فرض أنني قد حققت شيئًا يُذكر.