« صندوق ستي »
( لاتنتمي للقصة القصيرة..مجرد تداعيات لذاكرة كانت تضج فرحا وجمالا)
أوّل ما أطَأ عتَبَةَ غرفتِها يجذبني عالمٌ ساحر غامض جميل، وعبقٌ من كلِّ شيء عتيق.
بابُ الغرفةِ درفتان، لونُه أخضر حشيشي أجتازُ العتبةَ من فوقِ رُخامةٍ منقَّطة بالأبيض والأسود، تستقبلني بضحكتها الحنون.
(ستي كرادو)
كانت امرأةً طويلةَ القامة بيضاءَ البشرةِ بهيّة. تحتفظُ ببقايا حُسنٍ رُغم خطوط الزَّمن، قامتُها منتصبةٌ دائما، شامخةُ الرَّأس معتدَّةٌ بنفسها. تلبَسُ فستانًا أكمامُه طويلةٌ تنتهي بأساورَ تُقفلُ بأزرارَ جانبيَّة يصلُ فستانُها إلى منتصف السَّاقين وترتدي جوربًا سميكًا، وفوق الفستان جاكيت أسود حالك من الجوخ الإنكليزي كان يضفي عليها الأناقة والفخامة.
تضعُ فوقَ رأسِها (حِطاطة، هكذا كانوا يسمّونها) قطعةٌ من قماشٍ أسودَ غالٍ وثمين مطرًزٍ بخيوط من الذَّهب، تَدْرُجها ثلاثَ مرَّاتٍ بعرض عشْرة سنتيمترات وتلفُّها فوقَ رأسِها كعمامةِ الوالي وتسدِل فوقها منديلا من الحرير الأبيضِ النَّاعم فتغدو ملكةً بلا عرش.
في البيتِ الكبيرِ، غرفةُ جدَّتي واسعةٌ مبنيَّةٌ من الحجرِ كما باقي البيت، سقفُها عالٍ يزدان ببحرةٍ مزركشة برسوم من البجع والزّهورِ بألوان من عصرِ النُّبلاء.
للغرفةِ ثلاث عيونٍ واسعةٌ كبيرة. غربيَّةٌ واطئةٌ لها أربعُ درفاتٍ تشرفُ على صالةِ البيت الكبير تبقى مغلقة كل الوقت، وشماليَّة واطئة تشرفُ على ساحةٍ تمطُّ عنقَها لتصلَ الشَّارعَ الفرعي وهذا أعطاها أهميَّةً استراتيجيةً للتسليَّة، وشرقيَّةٌ عالية قربَ السَّقف تطلُّ على بيت الجيران تدخل الشَّمسُ منها حييَّةً وكأنَّها تشعرُ بالخجل لاجتيازها غرفَ الجيران -فتسمعُ حَكاياهم- لتصلَ غرفةَ جدَّتي فتشعرُ بخجلها فلا تسألها: ماذا سمعتْ؟ وماذا رأت؟
تركُن ستي كرادو سريرها النُّحاسيَّ الواسعَ بقوائمِه الأربعة العاليةِ بجانب النَّافذةِ الشّماليَّة الواطئة الكاشفة للشَّارع من بعيد، فوقه تنصِبُ كُلَّةً من قماشٍ أبيضَ يُدخِل النَّسماتِ العليلة َويمنعُ دخولَ البعوضِ وفي الصَّيف والشَّتاء تُبقي جدَّتي النَّافذة مفتوحةً على مصراعيها فهي تشكو الحرَّ دائما، لكن أقولُ لكم سرًا اقتربوا منِّي لأهمسَ لكم:
(عندما كانت جدَّتي تسمعُ أنَّ أحدًا مات، تُغلق نافذتَها وتقفِلها بإحكام، فهي تخاف أن يدخلَ ملكُ الموتِ منها ههههههه)
أمَّا أرضيَّةُ الغرفة شُكّلتْ من بلاطٍ صغير ملوَّن بزخارفَ هندسية، كلُّ بلاطةٍ تكمل الأخرى فتشكلتْ بيدِ معلِّم فنَّانٍ ماهر أرضيةٌ غايةٌ في الجمال والبهاء.
في زاويةِ الغرفة الغربيّة ثلاجةٌ صغيرة تكفي حاجةَ جدّتي.
وبقرب الباب على الجدار الجنوبيّ صندوقٌ خشبيّ حجمُه كبير مستطيل الشَّكل، غطاؤه سميكٌ قويّ محنيّ قليلا، الغطاءُ والجدرانُ الخارجيَّة زُيِّنت بأصداف ملونة ورقائقَ معدنيّة بأشكال غاية في الإبداع الفني، وعلى الجدار الشّرقيّ وقفتْ عاليةً شامخةً خِزانةٌ بدرفتين منفصلتين غطّت جدّتي كلّ رفٍّ بقطعة قماش أبيضَ طرّزتَها بيديها بخيوط زرقاءَ بعضُها فاتح الّلون وبعضُها غامق، وترتّب فوقها حاجياتِها من مناشفَ وثيابٍ وغيرها.
أسلّم على جدّتي وأقبّل يديها وتحتضنني بحنان، أنسلّ من بين يديها وأقفُ وسطَ الغرفة مسحورةً بالبَحرة والنّافذة العالية والصّندوق. آه! الصندوق! سأحكي لكم:
تقترب جدّتي من الصّندوق تفتحه ببطء وحنوّ..أفغرُ فاهًا وأحملِقُ عيونًا بريئة، أمطّ رقبة صغيرة لأستكشفَ داخله. عميقٌ غامقُ الّلون مرتّب بأناقة.
تينٌ وزبيب، لوزٌ وجوز وبعضٌ من حبّات الحلوى. علبة فيها أقراص من بقايا العيد وهي من صنع جدّتي المغرورةِ بأنّها أمهر الماهرات. كلّ شيءٍ مرتّب نظيف له رائحة زكيّة. تطعمني جدّتي وتشجّعني:
كلي فأنت نحيفةٌ ضعيفة البنية وتلمَس شعري بيدها المعروقةِ النّحيلة برقّة فآكلُ بشهيّة وسعادة.
لا أتكلّم عندها أبقى مبهورةً بقصر الأميرة المسحور. مهما كان الطّعام بسيطا وبدائيا عند جدّتي له نكهةٌ وطعم آخر.
أغادر تغمرني مشاعر وأشياءُ جميلة لم أستطعْ يومًا تفسيرها، كلّ ما أفكّر به أنّ عالَمَ الجدّات دافئ.
أصبحتُ جدّةً حنونة كريمة كجدّتي لكنّ صندوقيَ أسود...