« قراءة نقدية »
بقلم: الناقد / عدنان الجابر
لنص « هل رأيتم من يشبهه؟»
للكاتبة / عبير عزاوي
•••••••••
النص
« هل رأيتم من يشبهه؟»
هسهس الصوت قادما من عمق الظلام؛ لكزني في خاصرتي فنهضت؛ تتبعت الصوت؛ الليل البارد يلف الكون ويلم أطرافه مثل معطف فرو قديم له رائحة عفن ودم.
قدماي تطأان التراب المبلل بندى المساء وشيء يرتجف بين ضلوعي .
ما أشبه الليلة بتلك التي ولدتك فيها ...كان الجو ربيعا أيضا وكان اللوز قد أتم إزهاره وبدأ ثمره ينعقد وتحت نخلة بيتنا القديم فأجأني المخاض وكنت وحيدة. فقد انشغل الجميع بعرس في قرية أخرى ...كنت في شهري السابع ولم بظن أحد أنك مقبل على الدنيا بهذا الشغف ...لطالما أوقفت فوراتك وتظل أنت تندفع كل مرة في شغف مغامرة جديدة .
عندما اشتد المخاض علي خرجت أتلمس أحدا يساعدني ...فأقعدني الألم أرضا على صخور تفرش حوض الأزهار حول النخلة.
أسندت وجعي إلى ساق النخلة وممدت رجلي وعندها انزلقت سريعا حملتك بلهفة وبقي الحبل السري مربوطا بيننا نظرت حولي ..لا أحد يؤنس وحشتي ولا شيء حولي يضيء عتم خوفي سوى نور البدر الذي يتدلى من السماء فيمسك قلبي لئلا يتوقف نبضه؛ كيف أقطع الحبل ولاشيء حولي سوى الصخر؛ تناولت حجرين دققت بهما الحبل حتى انقطع وربطته بخيط من طرف ثوبي؛ أدخلتك في فتحة الصدر بين الثوب وشاح رأسي وضممتك حتى أشرق الصباح وجاء من حملني إلى الغرفة حيث الدفء والراحة...أنت ابن حجر الأرض مثلما أنت ابن قلبي ...
الصوت الذي انتظرته في رقدتي هذه جاء أخيرا .. والباب الذي صر في الظلام لينفتح بعد سنين جعلني أهب وأهرول ..كم. انتظرت عند هذا الباب ..كم تمرغت على ترابه أرتجي خبرا ولو كاذبا عنك ..لكن الجواب هو نفسه دائما:
_' ليس هنا "
وتمزقني نظرات مثل حراب مسنونة:
-ليس هنا ...ألا تفهمين؟
_"لم لم تحسني تربيته بدل أن تغوي هنا مثل .......'
احقاً لم أحسن تربيتك؟
كنت فتى يحب الشعر والشمس وصوت البحر
وكنت أعيذك كل يوم من سطوة الأحلام.
لكن سنواتك السبعة عشر لم تشفع لك حين انتزعوك من حضني ومزقوا صدري ببنادقهم ..وانا أصرخ فيهم:
-مازال صغيرا ..إنه طفل ..طفل طائش "
بينما كانوا يدوسونك بكعوب أحذيتهم والدم يغطي وجهك المتورم ... ثم اقتادوك معصوب العينين...ومن يومها
لم تتوقف رحلة بحثي عنك عشر سنوات وأنا أهيم من باب لبوابة ...لم أترك فرعا ولا سجنا لم اجلس أمامه على أمل ان ينفتح يوما ما وتطل برأسك منه ؛ أحتمل الضرب و السخرية ونظرات الاستنكار حينا والاشفاق حينا .. والازدراء احيانا ...ولا أنسى ذلك الضابط ااذي يركلني كلما خرج ورآني ...صوته يتردد بذات العبارة كل مرة:
_"لم لم تربيه ..بدل أن تعوي هنا مثل كلبة ..."
هسيس الصوت الذي كان وهما... صار الٱن حقيقة ...صوت فتح الباب ..كيف للحلم أن يصبح حقيقة بلمحة بصر ...أصوات خروجكم ..أقدام تهرول لاتكاد تلامس الارض ....أقف مشدوهة بينما تمرون من حولي ...تركضون وانا ألاحق الوجوه؛ أبحث عن وجهك ...
تحاصرني وجوه مختلطة الملامح... ٱلاف تجمع بينهم نظرة واحدة تتمعن العيون بالعيون
أهو أنت؟! ...
من أنت؟!
هل رأيته ؟!
_"هذا يشبهه' ..
_"هكذا كان شكله..ربما تغير الٱن "
وتمضي الأصوات حولي تلتقي بعض الوجوه والعيون فتفغر الدهشة فاها أقف خلف الصفوف وصورتك في يدي:
-هل رأيتموه ؟!
-هل رأيتم من يشبهه ..
أنظر في شاشات صغيرة بحجم اليد تضيء بصور شاحبة وأعين انطفأ بريقها ...
ومثل كل مرة تخيب رحلتي ..وأعود لأتوسد تراب قبري.
حبلي السري أوزعه قطعا على عدد الذين خرجوا من وراء بوابات الموت أو الجنون ولم تكن معهم
يوسع لي الملاك الذي إلى يميني المكان شبرا؛ ويمسح على رأسي لأغفو قليلا؛ ويجلس منتظرا موعد الإفراج القادم لكي يلكزني في خاصرتي فأهب لأبدأ رحلة البحث من جديد.
•••••••
« القراءة »
لقد قرأت لكِ أستاذة عبير ألماً ممضّاً ولم أقرأ كلمات إذ إنك وأنتِ تشرعين يافطة الإدانة عاليةً آثرتِ أن تكتبي على صدورنا بالسكين .. ! وتملّكني الذهول لمّا وجدتُني أقرأ ألمي أنا، وازداد ذهولي عندما وجدت القوافل كلها تتصفح أوراقك لتردد أوجاعها هي الأخرى على شكل حداءٍ يخالطه النحيب ..! ويبدو أن هذا الحبل السري بدا مشدوداً إلينا جميعاً لذلك فعندما هشّمتِه بحجرٍ ..تمزقنا له فَرَقاً وحزناً ..
لقد أجادتِ العزاوي بذكاء رسم اللوحة ارتكازاً إلى واقع عاشه الجميع وكلٌّ و-بحسب طريقته- انفعل وتفاعل وعبّر وأنشد ..ثم بكى.!
لكن الأديبة العزاوي في هذه الحال لها رأي آخر فقد أمسكت بيدٍ عبقريةٍ ريشتها، و بالأخرى عديداً من درجات اللون الأسود لتقدم لنا لوحةً تحاكي إرهاصات اليوم الآخر، أو ما قبل القيامة.!
ومن ناحية فنية تؤكد لنا العزاوي في سردها المكثف فرادتها الفنية في الكتابة القصصية السردية إذ إنها ترتكز فيها إلى ثقافتها الشمولية فضلاً عن أصالة قيمها، وبراءة موقفها، وطهارة مبادئها، الأمر الذي يجعلها رائدة من رائدات هذا الجيل من الأدباء في كتابة القصة ..!
وإني إذ ذاك لأشهد بأن العزاوي في جميع ما قرأته لها تؤثر الأسلوب الرفيع المختلف والبعيد عن كلاسيكية أساليب الكثيرين فهي تعتني بالمفردة الجزلة ذات الظلال والإيقاع في غير غموض وذلك بغية خلق جانب التأثير والإدهاش لدى القارئ الأمر الذي أغبطها عليه ولا أقول أحسدها..! والأمر ينسحب أيضاً على تراكيبها وعباراتها،
أما خط الدراما في عملها فقد بدأ بالألم، وانتهى بالفاجعة أو قل : بنفسٍ تتقطع حسرةً ويأساً، ووجعاً ممضًّا إذ يبدو الأفق منطبقاً ، والطريق طويلاً.