زمرة الأدب الملكية

ما أكثر الأقلام إن فتشت محصيها،، فيها العلم وجلها غثاء من حطب،، وريشة الفهم إن جئت تطلبها،، فدواتها نحن عرين زمرة الأدب..

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

« أربعة عشر يوما » _ بقلم: الكاتبة / نجوى العريبي


 



« أربعة عشر يوما » 




سرت في ممرّ الطائرة وصولا إلى مقعدي... لا تلمح غير كمامات انتصبت فوقها عيون واجلة. على يميني جلس كهل تجاوز الخمسين،بشعر مموج غزاه الشيب ،وخطّ الزمن على محياه أخاديد،فلفّه بوقار غريب...

 الطائرة تعلو في الجوّ ، وصوته يرتفع مرتلا آيات من الذكر الحكيم ،متهدجا يرتعش خوفا "أعوذ بالله ما أشد نشازه" . يا الله  ليصمت ويرحمني!!

ألمحه  يكرر تطهير يديه بمبالغة ،مستعيذا من شر الفيروس،وعدواه...

 ولا ينجدني منه سوى سماعتين اقتنصت بهما إيقاع قطعة موسيقية حملتني إلى بيتي ودفئي،فسبحت محتضنة أحلامي...


بعد لأي حط بنا الطائر العملاق على أرضي الحبيبة.وجدتني أسل نفسي من الزحام تاركة مسافة الأمان،فالعدد كبير والتدافع على أشده .لن أنساق في هستيريا العجلة!!

 "كلنا سنحمل إل حجرنا الصحي الإجباري"

المطار قفر،إلا منّا،نحن الذين نحمل تهمتنا...

 يسألك البعض وهو ممتعض

_هل أجروا عليكم فحص الكورونا؟

إنك كالشاة الجرباء...الجميع ينظرون إليك باحتراز ويسارعون يتمون الإجراءات لتُلفظ كالنواة.

 

خارج المطار،برودةتهاجم جسمي في ضراوة،أحث الخطى . أغطس في أول مقعد يعترضني في تلك الحافلة التي لم تتحرك دواليبها إلا بعد انتظار مضن  "أين وجهتنا و مستقرّنا؟"

صوت محركها يصك آذاني و الهواجس تأكلني .ووسط وجوم  رهيب للراكبين وإعيائهم ، تناهى إليّ صوت شيخ ريفي عفويّ بضحكة مجلجلة كضحكة طفل تلقى هدية يوم العيد

-مرحبا  يا ضي عيوني

الزوجةعلى طرف الهاتف  تسأله عن وجهة الحجر

الشيخ :-قالوا بِحُطُّونا(يضعوننا) في نزل،على البحر...

الزوجة تغبطه..وبوابل أسئلة تمطره.

هزني الفضول لعلي أخطف وصاياها له

الشيخ :- أقضي مدة العزل أينما كان ... حتى ع الرملة،أو في ظل شجرة...مدة وتْفوت...

وعاد من جديد يكسر فضاء الحافلة برنين ضحكته 

الزوجة ببراءة الذئب من دم يوسف تسأله عن حضور العنصر النسائي...

الشيخ :-طبعا كلنا مع بعض "خيوة" (إخوة)،و بعدين (فيما بعد)كل واحد و"شمبريه"يقصد(غرفته)

ضحكة مسترسلة، ممططةفهمنا مغزاها .الحاجة خايفة عليه  من الملعونة الكورونا !!! هههه

الكورونا أو البنت الحلوة المجنونة...

يبدو أن فيروس الغيرة أصابها...

تقف الحافلة بنا أمام بوابة منقوشة ، وتتوالى الحافلات بالمحجور عليهم . يطول صف الانتظار حتى نتسلم أمتعتنا وغرفنا  . وبين هذا وذاك ، يصرخ طفل جزعا، وتقفز أخرى كأنْ بها مسّ جان لرؤية غادة تخاطب حارس الباب،. علّه يسمح لها بتعدي الرقاب والتسريع  بدخولها إلى جنة الخلد...

والآخر ...والآخر... شباب كالنمل في عمل  دؤوب.إنه شباب المنظمات والمجتمع المدني يقدم خدماته.


تمضي الساعات بطيئة كأنّ الزمن نام نومة أهل الكهف...

التعب والتوتر ينهشنا...

الظلام في الخارج مدلهمّ . صوت أمواج البحر الهادر يخرق مسمعي ليلقي بظلال الرهبة في نفسي...رائحة عطنة في ممرات النزل ،فهو مغلق منذ أشهر . سرّحت بصري قليلا "كم قطعت أرجلٌ هذا الممر ! كم رصّعتْه ذكريات !

كم كان عامرا بالحياة!

ولجتُ غرفتي ، لا وقت لديٌ لتأمّل فضائها ...أمامي أربعة عشر يوما ، سأحفظ جّزَيْآتها وستحفظني-وإن كانت ذاكرتها قد تآكلت لكثرة الذين أقاموا بين جدرانها‐ كلهم أتوها مختارين وقلة سكنوها مجبرين ، بل لم تكن لتراهم إلا نعاس الليل ثم يهرولون صباحا إلى التمتع برمال البحر الذهبية وشمس بلادي البهية...

يختلف الوضع هذه المرة ، فحالنا كمن يطلب ماء وهو يسير إلى السراب

-ما الذي يحدث ولا أفهمه!!

هكذا خاطبتي جدران غرفتي الصامتة ، مشرعة نوافذها ، جذلةبمقدمي

-كدت أصاب بالجنون من هذا الفراغ.بدأت رائحة مسترابة،كرائحة الموت الكريهةكأنْ بي عفن ، وكَلَم لا يبرأ،أنا الجدران التي عايشت قصص حب لا تنتهي ومغامرات وليال حمراء كان الفجر فيها نذير شؤم للعاشقين...

أين غادر كل هؤلاء؟؟

ما عاد أحد يشهق عندما يلقي ببصره من شرفتي فيتلقفه منظر البحر اللازوردي وامتداد الأفق مع الماء اللجين  ومنظر الأشجار الخضراء وقد تسامقت نحو السماء كأنها العروس في أبهى حللها...

هللت أنتِ .غير أنك لم تعبئي بي،

أتوا بك مرغمة لتقضية مدة عزلك الصحي 

كوني بخير ...سنكسرجدار الصمت الذي شيدته ظروف الجائحة

[  ] لا حياة لي إلا بوجودكم،أين ذهبتم؟ولمَ غبتم وماكنتم تطيلون الغياب؟

[  ] -غريب أمرك ألم تخبريني منذ هنيهة إنك على علم أني أتيتك قهرا؟ألم يبلغك نبأ الوباء المميت؟

-قلت وباء !!أعوذ بالله وأيّ شر أتيتُ حتى يلقوا بكم عندي؟

ألم يكفهم مافعلوه بنا أنا وإخوتي "الغرف"؟فنحن من زمن ثورتكم نقاسي ،الفراغ يقتلنا.

-اصمتي أريد أن أرتاح من عناء رحلتي .تبرين نصال أسئلتك اللامتناهية كم أنت ثرثارة!!

أفتح عيني على صراخ أحدهم واحتجاجه . 

فقد حقيبته وفيها كل أغراضه

ماذا إن فقد صحته!!                                                    

 كتلك الفتاة في ريعان شبابها رأيتها تترنح،كريشة في مهب الريح و تسقط مغشيا عليها" والطبيب قد أبطأ...الجميع هارب توجسا من ذاك الوباء


يا لَلحجر اللعين صانعا للخوف و مؤججا للملل!!

كان جداري"جدار غرفتي"ما زال غارقا في بقايا الظلمة،أزحت الستارة ،ألمح خيوط المطر تربط السماء بإسفلت الشارع الممتد،أنظر إلى المطر والطريق المبلل وبقايا الحلكة،تجسد شعوري بالوحدة . وعاودتني كآبتي ، لكني جاهدت أن أكون كالخيزرانة أنحني للريح ولا أنكسر . نفضت قلقي وانغمست أسجل ما اعترضني في رحلتي..

لِلّيل في الحجر عالم آخر،أما المتقدمون في السن فتكثر أوجاعهم وليس لهم غير الصبر، وأما بعض الشباب فلا للكورونا ولا للحجر تأثير عليهم . يصلون الليل بالنهار ،كأنهم أفراس جامحة بلا عقال . يأسرهم نهم البطن وفورة الجسد...

أطلق بصري بعيدا عن ذاك الجدار،أمده نحو الشاطئ والبحر وأتُوه في مد وجزر "عجيب أمر البشر،بعضهم تتملكه غريزة الجسد ، فيدفع بنفسه إلى إمكانية الإصابة بعدوى الفيروس، غير مكترث ،والآخر يفترسه الكسل ،يتدثره غطاء،فلا يبرح فراشه...

وآخرون...وآخرون كلهم حكايا ،كلهم بمثابة صحراء تنتظر الهطل،أرض عطشى تبحث كيف تستثير غيث الإفراج .


وتمر الأيام على وتيرة متكررة ،ننام ، نصحو ثم ننام ...ثم نفترق.

  

أخيرا أشرقت شمس اليوم الرابع عشر ،نفضت رماد الأيام الماضية 

وكطائر الفينيق سأجنح إلى بيتي...

فجأة وقع أقدام تدكّ الأرض دكا،رائحة نفّاثة زكمت أنفي خرقت الأبواب والجدران ،إنها مادة التعقيم المقيتة،مضخم صوت بحدّةوحزم:

-الزموا غرفكم،يمنع منعا باتا مغادرتهاحتى إشعار آخر...

يا الله هل هو نذير أربعة عشر يوم آخر؟!!!



••••••••••••



نجوى العريبي / تونس
















عن الكاتب

زمرة الأدب الملكية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

المتابعون

Translate

جميع الحقوق محفوظة

زمرة الأدب الملكية