زمرة الأدب الملكية

ما أكثر الأقلام إن فتشت محصيها،، فيها العلم وجلها غثاء من حطب،، وريشة الفهم إن جئت تطلبها،، فدواتها نحن عرين زمرة الأدب..

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

ترجمة بقلم الكاتب/خالد العجماوي لقصة(ورق الحائط الأصفر) للكاتبة الأمريكية/ شارلوت بيركنز جيلمان


«ورق الحائط الأصفر»

بقلم/ شارلوت بيركنز جيلمان.

ترجمة/ خالد العجماوي.


"ورق الحائط الأصفر"

قصة للكاتبة الأمريكية/ شارلوت بيركنز جيلمان (١٨٦٠-١٩٣٥)

كاتبة أمريكية من القرن التاسع عشر وأوائل العشرين. عرفت بكتاباتها في مجال الأدب النسوي من قصص وأشعار جعلتها لأجل قضايا المرأة في تلك الفترة. 

كانت قد كتبت قصة "ورق الجدار الأصفر" وهي تمر باضطرابات عقلية إثر ما بعد الولادة postpartum psychosis.


(ترجمتي بتصرف)

كيف استطعت أن تستأجر لنا مثل هذا النُزُل الفخيم يا "جون"؟ كيف ظل هذا البهو الكبير، وهذه الغرف الواسعة دون ساكن كل هذه المدة؟ قصر كهذا يساوي الكثير من المال ربما، كما أنه يحتاج منك إلى حظ وفير دون شك.  

أراك تنظر إلي وتسخر مني. لطالما لمحتك تنظر إليّ وأنت تضحك. كأنك تراني دعابة، أو ربما خرافة!

أيها الطبيب الحاذق "جون". أنت لاتؤمن إلا بما تمسكه يداك، وتراه عيناك، لذلك يا عزيزي، أنت لا تؤمن بي! أنا لست بخير، وأنت لا تصدقني. ألأنك طبيب ربما؟! لو لم تكن طبيباً يا زوجي العزيز لربما كانت قد تحسنت حالتي!

تردد دوما أنني على مايرام، وأنني لا أعاني غير عصبية زائدة، وبعض من توتر. حتى أخي يقول مثل هذا الكلام. 

أتناول العقاقير، وأمتنع عن العمل، والتنزه، وعن أن أشم الهواء الطلق الذي يجول خارج الجدران. رغم أني أرى أني أحتاج إلى التغيير في حياتي الكئيبة هذه. التغيير الذي سيمنحني بعضا من المتعة التي أحتاجها.

أمارس الكتابة خلسة؛ إذ أنها تمنحني المتعة التي ذكرت. أتخيل لو أن لدي أصدقاء أقابلهم، وعملا أقوم به، وأتخيل لو كان جون يصدقني، ولو أنه يحب ما أكتب! بيد أنه يقول لا داعي لكي نستسلم لخيالاتنا، وإن واقعنا هو الملاذ الحقيقي في الحياة. سأفعل إذن وأترك الكلام عن خيالي الظاميء إلى متعة لا يراها إلا في الأحلام. ولأتكلم عن هذا النزل الفخيم.

يبدو أنها كانت حديقة غناء، بأشجار وارفة و جفنات عنب تتدلى كالثريا، والتي تفرد ظلها على الأرض الشاسعة. أقول كانت، بيد أنها صارت اليوم مكانا قفرا، قد تكسرت أشجاره فبدت كأشباح ممددة على أرض ميت! 

أذكر أني ذكرت كلمة أشباح تلك لجون ذات مساء، فبدا عليه الانزعاج، و قفل الشباك، وقال إنني أهذي. يغضبني كثيرا ذاك الرجل. يقول إنني صرت حساسة لكل كلمة، وأنني أحتاج للعقاقير كي تساعدني. أتناولها لأجلك يا جون، بيد أني أشعر وكأنها تأخذ طاقتي وروحي.

يحبني جون كثيرا. يهتم بي. طلبت منه أن نجعل غرفتنا في الطابق السفلي من هذا القصر. قلتُ إن ثمة غرفة أجمل، حيث أن بها شباك تزينه الورود، ويطل على الحديقة. لكنه رأى أن الغرفة لا تلائمنا أبدا؛ إذ أن بها شباك واحد، كما أنها صغيرة ولا تكفي شخصين. أعرف أنه يحبني، وأنه يكاد يوجه حياتي كلها لأجل مصلحتي. لقد استأجر هذا القصر لي -هكذا يؤكد- حتى أنال قسطي من الراحة والهواء الطلق! لذلك فإن جون قد فضل غرفة الطابق العلوي.

كبيرة هي غرفتي. تدخلها الشمس وتزورها النسمات الصباحية. تبدو لي كأنها كانت غرفة أطفال. نعم حيث أن الشباك قد زينته قضبانٌ حديديةٌ عريضة كي تمنع مرور رؤوسهم الصغيرة. كما أن الحائط تزينه صورٌ للُعبٍ وأجراس. 

يهيج لي هذا الحائط أعصابي!

كأن ثمة يد طفل شيطان قد امتدت إليه، فمزقت فيه دون هوادة أو رحمة. يفقدني هذا الحائط التركيز. حيث تملؤه تلك الفراغات والبقع. ثمة فراغ فوق رأس السرير، كما أن ثمة بقعة كبيرة كالفم الفارغ على جانب الحائط المقابل. حائط كريه! كأن الخطوط المتعرجة فيه تنساب حينا، حتى إذا ما وجدت نفسها أمام رقعة من فراغ غرقت، وتلاشت، وكأنها تنتحر! اللون الأصفر للجدار كئيب. حتى كأنه حين يخالطه شعاع الشمس من الشباك صار حمضا من الكبريت. لا بد أن الأطفال قبلي قد كرهوا ذلك اللون في الجدار، فامتدت أياديهم عليه كي تحاول أن تنال من كآبته.

أكره هذا الجدار، وأكره هذه الغرفة، وسأكره نفسي إن عشت فيها طويلا!

مهلا. ها قد جاء جون أخيرا. سأتوقف الآن إذ أنه لا يحب أن يراني أكتب. ربما أخبيء هذه السطور في مكان ما، علني أرجع إليها في وقت قريب.


(الجزء الثاني)

لم أكتب شيئا منذ أسبوعين. وها أنا جالسة قرب الشباك وحيدة، في هذه الغرفة الصفراء الكئيبة.

لدي الآن رغبة عارمة كي أكتب. يتركني "جون" جل النهار، وأحيانا معظم الليل. لا يدرك الرجل كم أعاني هنا. يقول إنه في الحقيقة لا سبب كي أعاني. إنه ليس التوتر وحده يا "جون". صدقني. كنت أتمنى أن أكون مفيدة في هذا العالم. أن أقوم بواجباتي المنزلية فأكون سببا للمتعة والراحة. لا أن أكون عبئا ثقيلا. أنت لا تدرك أني أعاني حتى حين أطلب طعامي، وأعاني كي أرتدي ملابسي.

أحمد الرب كثيرا أن ماري تعتني بطفلنا. طفلنا الذي ولدته لتوي، كم أشتاق إليه يا "جون"!

قل لي، ألم تألم في حياتك قط؟ ألا تعرف معنى المعاناة؟ 

لايزال يسخر مني لأني أكره هذا الحائط الأصفر!

كان قد وعدني أن يغير هذا اللون، لكنه سرعان ما تغير هو، وقال إنه لا يسمح بأن تتلاعب خيالاتي بحياتنا، وأنه يجب أن نقاوم الخيالات تلك لا أن ندعها تحكم قراراتنا. يقول إنه لو بدل ذلك الأصفر لأجلي، فلربما تدعوني خيالاتي أن نبدل السرير، ثم قضبان الشباك، ولربما أطلب أن أبدل درجات السلم والباب نفسه!

قلت في توسل:

- إذن دعنا ننزل إلى الطابق الأسفل يا "جون". ثمة غرف لطيفة هناك صدقني.

أخذني بين ذراعيه. قال إنه مستعد للمكوث في أي مكان أحبه أنا. بيد أن الغرفة الصفراء واسعة وهادئة، كما أنها تريح أعصابه. سألني:

- ألا تحبين أن أكون مرتاحا؟

حسنا..أحب الغرفة كثيرا. لكن حائطها الأصفر يستفزني!

من شباكها أستطيع أن أرى الحديقة. ظل الأشجار الممدود على أرضها الحزينة. والزهور المتعبة. على جانب منها أرى ممرات لطيفة، تمر من البيت إلى داخل الحديقة تلك.

كأنني أرى أناسا يمشون في هذه الممرات!

 يحذرني جون من هذه الخيالات. يقول إنه علي ألا أستسلم لها. وألا أدع للخيال سبيلا إلى أن يقودني إلى الجنون! أحاول يا "جون". أقسم أني أحاول.

لو أنك فقط تمنحني الحرية لكي أكتب. تخف الضغوطات من دماغي المثقلة على الورق؛ فتستريح فيّ الأفكار حينا. محبطة أنا لأنك لا تحبني أن أكتب. 

يعدني "جون" أننا سندعو أصدقاءنا "هنري" و"جوليا" فور أن تستريح أعصابي، فنكون معا صحبة مرحة سعيدة في هذا القصر الكبير . ولكن فقط حين أتحسن. 

يا إلهي! كأن هذا الأصفر يدرك كم يستفزني. ثمة بقعة على الحائط أرى فيها رأسا بعنق مكسور، وعينين جاحظتين ترمقاني في تحفز! تزحف تلك العيون في كل مكان. إلى أعلى وأسفل، وعلى الجانبين، ترمقني فلا تكاد تطرف.

لم أكن أعرف أن ذلك الحائط مفعم بالحياة قبلا. نعم في طفولتي كنت أجد حياة في الحوائط حين الظلام وقبل نومي. كنت أرى الطاولة تبتسم، والكرسي يدعوني صديقتي، حتى إني لو وجدت أي الأشياء يخيفني، فإني كنت سرعان ما أحتمي في ذلك الصديق الذي يحبني.  

لكني لا أحس بالألفة تجاه الأثاثات في هذه الغرفة الصفراء.

يبدو أن الأطفال الذين سكنوها كانوا مثابرين على الكراهية. 

فقد خدشوا أرض الغرفة وقشروها، حتى السرير الوحيد بدا وكأنه قد عانى ويلات حرب قديمة. كل هذا لا يهم. فقط هذا الحائط الأصفر!

أسمع وقع خطوات أعرفها. إنها أخت "جون". فتاة كريهة، بالرغم من كونها مديرة منزل جيدة. يجب ألا تعرف أني أكتب، وإلا أخبرت أخاها. تقول إن فعل الكتابة هو ما يدفعني للجنون. الساقطة!

سأكتب إذن حين تخرج، حين أراها تجول بعيدا في تلكم الممرات البعيدة، والتي تمتد من منظور الشبابيك المتناثرة في أرجاء القصر، حيث الشجيرات، والمروج. 

أتأمل هذا الحائط الأصفر وأتساءل: ما سر تلك الظلال الهائمة التي أراها تحوم عليه وتحوطني من كل جانب؟

أسمع وقع خطوات تقترب.


(الجزء الثالث)

انقضى يوم الرابع من يوليو، وذهب الجميع.

كنا قد استضفنا والدتي، و"نيللي" وأولادها أسبوعا. "جيني" هي من استضافتهم في الحقيقة. أنا لم أقم بأي شيء يذكر.

 لم يعد لدي رغبة حتى في تحريك يدي. صرت عبوس ومتجهمة طوال الوقت. صرت أبكي دوما، لسبب وبدون سبب. ولكن يحدث ذلك غالبا حينما أكون وحيدة. 

وللعلم، أنا وحيدة الآن. 

أسير أحيانا في تلك الممرات التي تؤدي إلى حديقة القصر كي أتنسم بعض الورود. بيد أني في الأخير أرجع إلى غرفتي. صرت مغرمة بها! حتى مع وجود الحوائط الصفراء. 

في الحقيقة صار الورق الأصفر يسكنني!

أستلقي على هذا السرير المثبت بالمسامير، وأبدأ في أن أتابع هذه النقوش على الجدار. تتحرك كبهلوان! أقسم على هذا!

أبدأ من ذلك الركن في الأسفل، وأقرر أن أتابع ذاك النقش حتى النهاية.أعرف بعض مباديء التصميم الفني، لذلك فإنني أعلم أنه لا يتبع في تصميمه أي نوع من الفن، أو السيميترية.

إنه يتكرر فقط بالاتساع. تبدو الانحناءات في النقوش كأمواج تتهادى وتتلاطم. تتقاطع في الأخير مخلفة أشكالا من الرعب البصري المقيت.وكأن ثمة أعشاب بحرية تستخدم الإفريز وهي تطارد بعضها بعضا.

لست أدري لم أكتب هذا! إذا رأى "جون" هذه السطور فإنه سيغضب، وسيدعوها سخافة. بيد أني أريد أن أكتب ما أحس به. أرتاح بعدها. وإن كان ما أبذله من جهد صار أكبر من هذه الراحة التي أنشدها. 

صرت كسولة جدا. امرأة ممددة على فراشها طوال اليوم. 

يقول "جون" إنه علي أن أقاوم. كما يساعدني بالكثير من العقاقير، واللحم والنبيذ. 

 "جون" المسكين..كم يحبني! 

حاورته بخصوص رغبتي في الخروج، وأن أرى الناس، وأن أزور مثلا أقاربي "هنري" و"جوليا"، لكنه رأى أنني لست مستعدة بعد؛ إذ إن مشاعري لا تزال مضطربة. قال إنه وجد في مقلتي دموعا وفي صوتي رعشة. حملني وقتها بين ذراعيه إلى الطابق الأعلى، ووضعني على فراشي، وشرع يقرأ لي. 

قال إني حبيبته. وقال إني سعده وهناؤه، وكل ما يريد في هذا العالم. لذلك فإنه لزاما علي أن أعتني بنفسي، ليس لأجلي فقط، بل لأجله كذلك. 

نظرت إلى الورق الأصفر. تذكرت ابننا. أحمد الله أنه لا يعيش في هذه الغرفة الكئيبة. أتعرف يا "جون"؟ جيد أنك تصر على أن أسكنها، وإلا لأصبحت غرفة ابني المسكين. جيد إذا أنه قد هرب، ولا يهم ما أكابده أنا فيها طالما أن ابني بعيد. 

داخل هذا الورق أشياء لا أحد يعلمها. خلف هذا الأصفر تقبع خيالات مظلمة.

يا إلهي. ثمة امرأة تنظر إلي وهي تزحف خلف هذا الحائط. أرجوك يا "جون". تعال وأنقذني من هذه الغرفة اللعينة!


(الجزء الرابع)

أطل القمر وسط عتمة الليل نورا يشق أركان الدكنة، وهو يزحف نحو شباكي في هدوء حذر. كان"جون" على الفراش يغط في نوم عميق، وذلك الشيء على الحائط يتحرك كأنه يريد الانعتاق! نهضت من فراشي؛ ورحت أتحسس الحائط علني أتلمس ذلك الشيء.. 

- ماذا هنالك حبيبتي؟ 

استيقظ "جون" أخيرا!

وجدتها فرصتي كي أبوح بما أرى.

- "جون"..صدقني. أنا لست على مايرام. أخرجني من هنا. 

- لماذا يا عزيزتي؟ لم يتبق على إيجار القصر إلا ثلاثة أسابيع. منزلنا ليس جاهزا بعد.  

أخذني بين ذراعيه..

- أنت في أمان هنا يا حبيبتي. كما أنك تتحسنين. وجهك يزداد نضارة، كما أن شهيتك أفضل.  

- تتحسن شهيتي في وجودك "جون". ولكني لا أكاد أذوق طعاما في غيابك.

- دعك من هذا واخلدي للنوم، ولنتكلم في الصباح.

- ألن تتركني في الصباح؟

- كيف لا؟ لدي عمل يجب أن أقوم به. 

وجدت في عينيه حدة وصرامة. فلم أتفوه بكلمة. 

- حبيبتي، لا تسمحي لخيالاتك أن تقودك إلى أوهام. لاشيء سيء هنا. ثقي فيّ كطبيب واعرفي أنك بخير.

قالها وعاد إلى النوم. وجدتني وحيدة مجددا. نظرت إلى الحائط وأنا أسأل: هل تتحرك النقوش الأمامية والخلفية مجتمعين أم أنهما أحيانا ما ينفصلان؟

في الصباح تتغير النقوش. تبدو كمتمرد يعلن العصيان على كل قانون ومنطق. عصية على الفهم والإدراك، حتى كأنها تصفعك على وجهك. تصرعك فتسقطك. كأنها كابوس!

تختلف هذه النقوش في الليل، فمع ضوء القمر أو الشفق، أو ربما ضوء شمعة ما، فإنها تبدو كأنها قضبان، ووراءها ظل امرأة تريد أن تفلت. لم أكن متأكدة من تلك الظلال قبلا مع ضوء القمر الخافت. ولكني الآن أقسم أنها امرأة. تبدو في النهار مستكينة وهادئة، ولكني أراها تنشط كثيرا في الليل وأنا مستلقية أراقبها في صمت.

صرت أستلقي فترات طويلة. يقول"جون إن ذلك أفضل كثيرا لي. 

في الحقيقة أصبحت أخاف "جون" كثيرا. صار غريب الأطوار. حتى أخته "جيني" صارت تنظر نظرات عجيبة نحوي. ألهذا علاقة بالحائط ربما؟ لاحظت أنه صار يختلق الأعذار كي يدخل إلى الغرفة. بل وشاهدته في مرات كثيرة ينظر إلى الحائط في تمعن. حتى "جيني" لمحتها مرة تتحسس الحائط بيديها. انتفضت مذعورة حين وجدتني خلفها أسألها في هدوء، وغضبت بشدة كسارق ينفض عن نفسه تهمة. قالت إنها وجدت أنها لاحظت أن الورق يصبغ ملابسى أنا و"جون". وأنها تحذرنا من أن نقترب منه كثيرا. 

لم أصدقها. أعرف أنها تريد أن تكشف سر ذلك الحائط الأصفر، ولكني لن أسمح لها. أنا فقط من ستكشف ذلك السر.

صارت الحياة ممتعة وأنا أرقب الحائط!

صار لدي هدف ما، أن أرقب وأشاهد وأستكشف. تحسنتُ جديا. زادت شهيتي. كما أصبحت أكثر هدوءا ووداعة.  

فرح "جون" كثيرا وهو يراني أفضل. ابتسم لي وقال إنني صرت مشرقة رغم ذلك الورق. المسكين لم يكن يعلم أنه الورق نفسه هو سر سعادتي الآن. لم أعد أريد أن يأخذني بعيدا. كلا. أريد البقاء لأكتشف السر. لا يزال ثمة أسبوع قبل أن نغادر.


(الجزء الخامس)

تحسنتُ كثيرا. صرت أنام جل النهار، وأقوم الليل ساهرة أتابع هذا الأصفر العجيب. لم يعد يداعب عيني وحدها، بل صار يداعب أنفي كذلك. صرت أشم له رائحة! شممتها منذ أول يوم لي في هذه الغرفة، ولكنها لم تكن سيئة وقد كانت تصاحبها الشمس التي تدلف من الشباك وبعض النسمات الخفيفة. بيد أنه وقد ساد الضباب وهطل المطر فإن الرائحة أصبحت قاتمة. بل وصارت كأنها تزحف في أركان القصر كله. شممتها في غرفة الطعام، كما شممتها في غرفة المعيشة. وجدتها تختبيء في البهو الخارجي، كما رأيتها تنتظرني على الدرج. صرت أشعر بها تتخلل في جدائل شعري!

أحاول أن أفهمها. لم تكن تزعجني في البداية. كانت تبدو لطيفة وهادئة. ولكن ومع تحول المناخ الكئيب هذا، صارت الرائحة شنيعة. أحسها توقظني في الليل وهي تحوم حولي.

حتى لقد فكرت يوما أن أحرق القصر كله كي أتخلص منها. 

كان ذلك قبل أن أعتادها.  

ثمة خط يتعرج على الحائط. أراه يختبيء خلف كل قطعة أثاث. من تراه رسم له طريقه؟ أراه يدور حول هذه الغرفة، ويدور معه دماغي دورانا. 

اكتشفت شيئا في الأخير؛ إن النقش الأمامي على الحائط يتحرك بالفعل، وإن تلك المرأة على الحائط هي من تهزه بعنف. أحيانا ما أرى داخل الحائط نساء عدة، وأحيانا أخرى أرى مجرد امرأة واحدة. أجدها تزحف على الجدار في سرعة تهز ذلك النقش كوتر مشدود. تبدو مستكينة حين يقع عليها شعاع من الضوء، بيد أنها تنشط في الظلام، فتمسك بالخيوط كأنها القضبان، تهزها هزا وهي تحاول خلعها كي تخرج، فتقفز منه كي تعبر إلى داخل الغرفة. يبدو إنه لم تنجح محاولات أي من النسوة داخل الجدار من قبل. أظن أن تلك الرؤوس التي أراها على الحائط إنما هي رؤوس نساء فشلن في محاولة العبور، فنزع الخيط رقابهن، فتدلت رؤوسهن بعيون بدت بيضاء خالية من مآقيها.

ولكن مهلا! ثمة امرأة داخل الحائط تنشط بالنهار. لقد رأيتها!

أشاهدها كل يوم من خلال نافذتي. نعم إنها نفس المرأة كل مرة. أراها تزحف في ذلك الممر الطويل، وعلى غصون الأشجار . إنها تجول في جميع أركان الحديقة. بيد أنها سرعان ما تختبيء وسط الزروع إذا ما مرت عربة سريعة في الممر الطويل. أنا لا ألومها أبدا. لابد من أن يختبيء المرء حين يزحف! حتى أنا أغلق باب غرفتي جيدا حين أزحف بالنهار. لا أستطيع أن أزحف ليلا بالتأكيد إذ أن ذلك سيثير شكوك "جون" وريبته. كم أود لو يترك لي الغرفة لتكون لي وحدي، فأتمكن من تحرير تلك المرأة داخل الحائط!

لا تعجبني نظرات "جون" إليّ. وجدته يسأل أخته "جيني" أسئلة كثيرة عني. يتظاهر بالحب والاهتمام، بيد أن القلق يأكله. هو يعلم أني لا أنام ليلا، وإن كنت أظل هادئة بلا حراك. أصبحت أرى كما من القلق والارتياب على وجه "جون" و"جيني" يثيران فضولي واهتمامي. لماذا يا ترى كل هذا القلق يا "جون"؟ ..حسنا. لقد مرت ثلاثة شهور داخل الغرفة ولم يتبق إلا يوم واحد كفرصة لدي كي أحرر تلك المرأة الحبيسة من الحائط الأصفر.


(الجزء السادس)

هذا هو يومي الأخير هنا!

تريد "جيني" اللئيمة أن تبيت معي في الغرفة، خاصة وأن "جون" سيغيب طوال اليوم. لكني أخبرتها أني أحب أن أكون وحدي في الليل. كنت أكذب..أنا لا أكون وحدي حين يهطل الليل أبدا. تكون معي تلك التي تزحف فلا تتركني قط. فور أن بزغ القمر ظهرت هي، ظلت تزحف على الحائط وهي تهز الخيط. قمت من فوري وقررت أن أساعدها. صارت تشد الخيط وأنا أسحبه، ثم صارت تسحبه وأنا أشده. ظللنا نسحب ونشد حتى انقضى الليل وقد انتزعنا أمتارا من سجنها ذاك! لم أشعر إلا وقد وجدت شعاع الشمس يخترق الشباك ليدخل غرفتي. فوجدت النقش على الحائط يبتسم لي ساخرا وشامتا. حسنا..سأنهي المسألة اليوم إذن.

سوف نرحل في الغد. أسمعهم ينقلون أثاثنا ليتركوا القصر كما كان. دخلت "جيني" إلى الغرفة ونظرت إلى الورق الممزق ذاهلة. أجبتها بأني مزقته كي أخلص الغرفة من روح القتامة الشريرة التي تعتريها. ابتسمت وقالت إنها كانت تود لو أنها من مزقته مكاني كي لا يصيبني إرهاق ما. هيهات! لن يمس هذا الورق شخص سواي!

- تستطيعين الخروج لو أحببت. 

- شكرا "جيني"..في الحقيقة صارت الغرفة فارغة ونظيفة، وأود أن أنام الوقت كله. صراحة لا أرغب أن يوقظني أحد حتى ولو على العشاء. 

ذهبت وتركتني. لم يبق في الغرفة إلا أنا، والسرير المثبت بالمسامير. صار علي أن أبدأ.

أوصدت الباب بإحكام، وقذفت بالمفتاح إلى الممر الخارجي. لا أريد أن أخرج، ولا أريد أن يدخل علي أحد. ولا حتى "جون". أريد أن أدهشك بما قمت به!

في يدي حبل متين. حتى إذا ما خرجت تلك المرأة في الظلام هذه الليلة، وحاولت الفرار، أكون قد ربطتها وحبستها عندي. المشكلة الآن أن ثمة أجزاء في هذا الحائط لا أستطيع الوصول إليها. أحتاج إلى الوقوف على شيء ما. حاولت دفع السرير إلى أحد الأركان، لكنه مثبت بإحكام. تعبت حقا..أكاد أرى النقوش على الحائط تسخر مني. قررت أن أنزع كل الورق الذي أستطيع أن أصل إليه بيدي. أرى الرؤوس بعيونها الجاحظة تنظر إلي وهي تضحك في شماتة. يتملكني غضبٌ عارم. أفكر في القفز من الشباك، غير أن القضبان الحديدية تمنعني. يا إلهي، صرت أكره النظر من هذه النوافذ. أكاد أرى الكثير من النسوة يزحفن خارجا. على الممرات وفوق الأشجار، في خفة وسرعة. من أي حائط خرجن؟ هل خرجن من هذا الحائط، مثلي؟!

لن يستطيع أحد أن يخرجني من هنا! سأدخل ثانية داخل النقوش عندما يحل الليل. مرحى! إنه لشيء لطيف أن أخرج من الحائط إلى براح هذه الغرفة، فأجول فيها وأزحف كما يحلو لي. لن أخرج من هنا. لا أحب أن أزحف خارجا حيث يسود اللون الأخضر بديلا عن الأصفر. أريد أن أزحف على أرضية الغرفة هذه، و أن ألامس الحائط بكتفي فلا أفقد طريقي. 

ثمة طرق على الباب!

لا تحاول يا "جون" فلن أسمح لك بالدخول! 

أسمعه يصرخ ويطلب فأسا. هل تحاول كسر هذا الباب الجميل يا عزيزي؟

- جون..المفتاح هناك. عند الممرات الأمامية. ربما تراه تحت ورقة شجرة.

سمعت صوته يقول باستجداء:

- افتحي يا حبيبتي. أرجوك !

- لا أستطيع يا عزيزي. المفتاح ليس معي. إنه هناك تحت إحدى الأشجار ربما!

صرت أرددهافي ثبات، وخفوت: " تحت إحدى الأشجار ربما" 

اختفى صوته قليلا. مرت دقائق ثم وجدت الباب يفتح، و قد دلف "جون" داخل الغرفة. 

وجدته يصرخ:

- ماذا حدث؟ ماذا تفعلين؟

ظللت أزحف هنا وهناك. نظرت إليه من جانب كتفي.

- خرجت في النهاية. استطعت العبور من داخل الحائط إلى براح الغرفة. مزقت كل الورق الأصفر يا "جون" فلن تستطيع إرجاعي داخله من جديد. 

وجدته يسقط وقد فقد وعيه. ماذا دهاك يا "جون" لقد سددت علي الطريق! 

عبرت فوقه، وظللت أزحف.

"""

"خالد العجماوي"



عن الكاتب

زمرة الأدب الملكية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

المتابعون

Translate

جميع الحقوق محفوظة

زمرة الأدب الملكية