زمرة الأدب الملكية

ما أكثر الأقلام إن فتشت محصيها،، فيها العلم وجلها غثاء من حطب،، وريشة الفهم إن جئت تطلبها،، فدواتها نحن عرين زمرة الأدب..

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

)عذرا مدام) بقلم الدكتورة/أميمة منير جادو.


 عذرا "مدام" 


ما أشبه اليوم بالبارحة البعيدة مع الفارق.


إرهاصة..

(فرعون يذكر نبي الله موسى عليه السلام بفضله عليه :(قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) ( الشعراء-18)


القصة:

وقفت مارتينا الأوربية الرشيقة كغزالة بكل اناقتها وجمالها ورقتها تناديه : حبيبي قل "يا مامي ..مامي .."

لكن لم يزل زياد العربي يناديها : "مدام" .

يأبى لسانه أن ينطق مامي أو ماما .

كانت تسترحمه وترجوه وتذكره بالماضي الجميل الذي عاشوه معا هي وزوجها الكوماندو الفرنسي وهو ..

تذكره بحفلات الشواء ( الباربيكيو ) وأمسيات كانت تحكي له حكايات البطولات الفرنسية قبل النوم ومباهج باريس وقصر الإليزيه وبرج إيفل والشانزيليزيه ..واشعار بودلير..ولا مارتين ..وحكايات فيكتور هوجو .. 

تذكره بأيام صباه وهداياهما له والأجازات التي كان يقضيها معهما بعد عودته من المدرسة الداخلية الراقية ببيروت ؛ حين كان الكوماندو يعمل بسوريا "زمن الاحتلال" .

راحت تذكره بكل الذكريات الجميلة ..

بينما وقف زياد يستعيد ذكريات لا ينساها أبدا ..كيف قتل الفرنسي أبويه معا برصاصات غادرة ..كيف ظل ينادي عليهما : أمي ..أبي ..أمي ..أبي ..وراح يحركهما لعل أحدهما لم يزل حيا او مازال ينبض قلبه رغم النزف..

صورة لا ينساها أبدا زياد ..

البرنسيسة الرومانسية الحالمة التي ربته في بيتها ظلت تستعطفه بدموعها ليعود معهما إلى فرنسا .

ويغالبه دمع الأسى هو يتذكر كيف كانت اصابع الكوماندو تشير للجنود كي يطلقون نيران مدافعهم الغاشمة على الأهالي والنساء والأطفال وعلى بيوت الضيعة وحيواناتها كلها ..

يتذكر كيف انبطح أرضا وظل يزحف على الأرض محتميا ببقايا الجدران والأشجار ولم يكتفوا حتى رويت الأرض بدماء الشهداء ...

مازال يتذكر كيف ظل أياما يهرب بين البيوت الخاوية والأشجار المحترقة والجدران المتهدمة يبحث عمن يأويه يرعى غنمات فرت من الويلات ينام بجوارها ويستدفيء بصوفها ..بعدما تهدم منزلهم وصار بلا مأوى .

مازالت المدام تستحلفه بدموعها ان يرحل معهما لباريس ومازالت تسأله : قل "مامي" مرة واحدة كم اشتاق اسمعها منك لا تكن قاسيا أنا من ربتك ..

ومازال زياد لا ينسى صوت المدافع والرصاصات وكيف جاءت ماتيلدا مع الكوماندو وأختطفاه قصرا من الصحراء فنظفاه بأغلى أنواع الصابون وعطراه وألبساه الحرير ونيماه بالفراش الوثير ..

احتضناه وأحباه وربياه وعلماه واتخذاه ابنا لهما بعدما يئسا من الإنجاب ..

وحين هرب منهما يوما فارا من حياة منعمه لصحراء لم تزل تفوح منها رائحة دم أهله وجيرانه وعشيرته الأولين ..بحثا عنه ولم يكن صعبا أن يجدوه هناك يبكي بين الأطلال ينادي على أبويه الذين غادراه غدرا دونما رجعة .

امسكا به وأعاداه مرة أخرى للعش الفرنسي الهاديء الذي لا يؤرق صفوه غير احلامه وكوابيسه التي تلاحقه عن مقتل أهله وتشريد ضيعة بأكملها..يستنفر صارخا .

فتضمه ماتيلدا بكل حنان الأمومة المفقودة..وتهدهده حتى يهدأ وينام مجددا ..أحبته كما لو كانت أمه الحقيقية...وأحبه زوجها واتخذه ولدا .

صحباه في رحلاتهما شرقا وغربا ..علماه بالجامعة الفرنسية بأرقى كلياتها ..العلوم ..

حين عاد لوطنه بأجازة بعد سنوات ..

والتقى بالثوار الأحرار نازعه حنينه للماضي البعيد وفكره وارتوائه من الثقافة الفرنسية و موليير وبودلير و...و....

كان يحب ماتيلدا والكوماندو فهما أهلا فضل عليه فلم ينكر فضلهما ..لكن لم يستطع أبدا أن يناديهما ماما وبابا ككل الاطفال الطبيعيين ..

وحين تواصل مع رفاقه الثوريين بسوريا وزار بيته القديم المتهدم بعيدا هناك في الضيعة ..عادت كل الذكريات تلاحقه مجددا وتسكنه ..

وهناك في منزله القديم المتهالك سخر علمه وذكاءه وصنع قنبلة وفق معادلات كيميائية درسها ..

ووضعها بجوار "الكامب" المعسكر الفرنسي فزياد كان وحده العربي الفرنسي المسموح له بالتجول بينهم بحرية ..

قبل ان يضعها وضع عشبة في مشروب والده نومته طويلا ومنعته من الخروج للكامب في تلك الليلة ..

ومازالت ماتيلدا تسأله العودة وما زال يأبى ..

ضمته بكل حنان الأمومة التي عاشتها معه..ضمها بحب وامتنان ..وردد كلمات قصيرة : وداعا ..مدام ..وداعا مسيو .ميرسي بيكوو ..

سافتقدكما كثيرا ولكن سأفتقد وطني أكثر حين اغادره..

سأبقى هون .

هون ثرى أبي وأمي .

هون رائحتي وتاريخي وجذوري 

عذرا مدام.

-----

٣/٥/٢٠٢٣

#قصة_قصيرة_بقلم

الدكتورة

أميمة منير جادو

عن الكاتب

زمرة الأدب الملكية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

المتابعون

Translate

جميع الحقوق محفوظة

زمرة الأدب الملكية