قراءة نقدية بقلم أ. رصيف الأمل
لومضة (رعاية)
للقاص /أ. جمال الشمري.
رعاية
أنجبت لقيطا؛ تبنّته الرّذيلة.
بداية،، استوفت الومضة كل شروطها الأساسية شكلا ومضموناً؛ من حيث العنونة/التكثيف/الإيحاء/المفارقة/و الإدهاش، وقد خلت من الأخطاء الإملائية و النحوية، كما تميّزت بالدّقة في اختيار حقل المفردات المتجانسة، التي جمعت بين كثافة اللّفظ من جهة (التكثيف البنيوي) واكتناز المعنى من جهة أخرى (التكثيف المقصدي)
وهذا ما ستناوله تباعا بالتحليل والشرح عبر تفكيك النصّ.
🔷١/ التكثيف البنائي للومضة:
تشكّلت الومضة في بناءها من (عتبة) : وهو العنوان ، ومن (متن) : وهما الجملة السببية والجملة النتيجة.
هذا النص الذي عبّرت عنه خمس مفردات، إحداها عنوان يفتح على مجالات التأويل، وجملتان متساويان في الكم، بمفردتين فقط لكل جملة، فكان البناء متكاملا بتعبيره المختزل ورمزيته المتعددة في آن.
🔹 عتبة النصّ/العنوان:
ورد العنوان مفردا ونكرة (رعاية) لفظ شمولي، ومبهم، كتِب على هيئة اسم -ليس فعلا ولا حرفا- وفي كلمة واحدة منفصلة عن جسد النص؛ فلم نرها مكررة في المتن،، لكنه جاء وثيق الإرتباط بمغزاه، (انجاب/ تبنّي= رعاية) فاحتوى جناحيْ الومضة محتضنا شقّيْها - فلم يكن اختيارا عشوائيا أو كلمة منفصلة تضلّ ولا ترشد- بل كان ناقلا أمينا للمضمون، وحافظ على عنصر التلميح دون تصريح، بحيث لا يمكن سبر غور معناه بدقة ولا الوصول إلى المراد منه، بغير تفصيله والولوج إلى عمق المتن في شطريه، لندرك مقاصده وفحواه.
🔹المتن:
تكونت الومضة من أربع مفردات، ضِمن كلمات متجانسة فيما بينها (أنجب/تبنّى- لقيط/رذيلة)، فكانت مختزلة بتكثيف لفظيّ مسجّر بالمعاني؛ محققة عنصر الإرتباط العضوي بين شطري المتن (السبب والنتيجة) محافظة بذلك على تماسك النصّ ووحدته البنيوية.
فالجملة الأولى لا يمكن تكثيفها لا من حيث اللفظ ولا المعنى،لذلك سيضطر القارئ لإضافةٍ ما، حتى يفهم قصدية الكاتب، وهذا من تمام الجمال في النص الأدبي، اذ يحتاج إلى بسط مخيّلة المتلقّي وتحفيز قريحته ليعلم خبايا المجهول من المعلوم، تماما كحال الجملة الثانية، التي تتطلّب البسط والتوسّع لتتّضح الرؤى بتأويلات المعنى، وبذلك تحقق عنصر التكثيف الومضِي بناءً ومقصدًا لما اشتمل عليه هذا الاختزال من إيحاء، وانزياح ورمزية.
🔶٢/ التكثيف المقصدي:
في هذا الجزء، سنحاول فكّ رموز مفردات النصّ عبر شرح الألفاظ وتبيان الدلالات اللغوية، التي تميّزت بالإيحائية، و الرمزية وبالإنزياح القصدي.. انطلاقا من عتبة النصّ النّكرة، مرورا بالتأسيس لعنصر المفارقة؛ ثم القفلة المدهشة.
🔸العنوان: (رعاية)
رعاية: اسم، مصدره رعى.
والرعاية: حرفةُ الرّاعي، وراعي الماشية هو حافظها،، و يقصد بها الإحاطة والحماية بتوفير أشكال الدّعم المادي والمعنوي من خلال الاحتضان والاهتمام والمعاملة الحسنة.
ويقال رعى الحاكم الرعيّة: أي تولّى أمرهم ودبّر شؤونهم.
ويقال أيضا: رعى اليتيم: أي كفَله.
عنوان حمل في طيّاته معاني إنسانيّة نبيلة بأبعادها القدسيّة العظيمة، وبما تضمنته من دلالات رمزية تكرّس معنى التراحم والمودة بين المخلوقات.
بحيث يأخذك العنوان للوهلة الأولى إلى منطقة دافئة، أين تتجلّى أبهى المعاني الإيجابية للعلاقات البشرية في ظل المعاملات الإنسانية الراقية، المفعمة بالحبّ و الحنان، المغلّفة بالعطف والوءام الأسَري، باعتبارها الضامنة لسبُل التّعايش السّلمي بين الأفراد تحقيقاً لديمومة الاستقرار المجتمعي، لما في ذلك من صلاح للفرد والمجموعة.
عنونة تميّزت بالجاذبية والتشويق؛ لشدّ القارئ حتّى يغترف من كنوز دلالاتها القِيميّة. (اعتبارًا لتصنيفها كومضة حكمة).
وفي هذا السّياق، نلاحظ بأنّ جميع الدّيانات السّماوية سلّطت الضوء على قضايا رعاية الأبناء وتنشئتهم تنشئة تليق برسالة الاستخلاف لتجنيب البشرية غياهب الضّلال، وفي مقدمتهم الإسلام، حيث رسم القرآن في تشريعاته وآدابه نظاما متكاملا بمنهجيّات شمولية تحضّ على رعاية الآباء عند الكبر،، كقوله:
{ واِخفض لهما جناح الذلّ من الرّحمةِ وقُل ربِّ ارحمهما كما ربّاني صغيرا} الاسراء- آية ٢٤؛ وذلك بتنشئة الأبناء ورعايتهم رعاية شاملة تقوم على الصّلاح وحسن التربية حتى تؤسس لبناء مجتمع قويم، متماسك ومتكافلٍ.
و تتجسّد تلك (الرعاية) بالفعلِ قبل القولِ، ولا تحقق أهدافها المُثلى إلاّ بتوفر عنصري المسؤولية والوعي، وهي أمانة في عنق الراعي، إن صانها رفعته وإن خانها سحقته، وقد قال ربّ العزة في كتابه { فما رعوها حقّ رعايتها}.
وهي سبب لدخول الجنّة، حيث ورد في الحديث الشريف أنه: (من استرعى رعيّة، فلم يُحِطهم بنصيحة،لم يجد ريح الجنّة).
ولعلّ أشهر حديث نبويّ يُحيلنا عليه العنوان، ذاك المدرج في باب المسؤولية، في قول الرسول الأكرم صلوات الله عليه (كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته... الرّجل راعٍ في أهله، وهو مسؤول عن رعيّته، و المرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيّتها.)
فأيّ نوع من الرعاية تلك، التي خصّنا بها الكاتب في نصّه، ومن هو الراعي الذي قصده؟ وهل أدّى هذا الراعي الأمانة الملقاة على عاتقه، وهل أتمّها على أكمل وجه؟
هذا ما سنكتشفه بتفكيك متن النصّ.
🔸 تحليل جملة الصّدر: ( أنجبت لقيطا)
بدأت الجملة السببية بفعل في زمن الماضي، فعل مبني للمجهول (أنجبت) وهو من الأفعال المخففة ورد بصياغته تلك كدلالة على وقوع فعل الانجاب بيسر ودونما معاناةٍ، أو هكذا أراد الكاتب بأن يحجب عين القارئ عبر تسريعه للحدث، بإغفاله قصدا لواقعة الحمل السابق الذي عادة ما ترافقه مشقّة وشدة قبل الولادة وأثناءها، فولادة الفكرة؛ يسبقها مخاض عسير، تماما كولادة الطّفل،،
*و أنجب: [ن ج ب] هو فعل رباعي لازم، أنجب ينجبُ، مصدر إنجاب.
أنجب الرجل: ولد ولدا نجيبا.
أنجبت المرأة: ولدت مولودا، ووضعت حملها.
والمنجبُ: هو من يخلّف النّجباء، ويقال شيخ منجب: أي ولد النُّجباء.
والنّجيب: هي صفة مشبهة تدل على الثبوت من نجُب.
ويقال رجل نجيب: نبيل، فاضل، كريم.
وامرأة منجبةٌ ومنجابٌ: أي من ولدت النُّجباء.
ونواجب الأشياء: لبابها وخالصها.
لكن الكاتب سرعا ما يصدمنا بطبيعة هذا المولود المُنجب.
_(أنجبت لقيطا) جملة فعلية صادمة مزجت بين متناقضات الأشياء، تكونت من مسند (مبتدأ) ومسند إليه (خبر)
*فاللقيط: من اللّقاطة، ما كان ساقطا مما لا قيمة له.
واللّقيط: هو المولود الذي ينبذُ.
وجمعه لقطاء: صفة ثابتة للمفعول من لقطَ: وهو المولود الذي يوجد ملقى على الطريق لا يعرف نسبه فيلتقطه الناس، كالطفل اللقيط.
وهنا يحيل الكاتب (ضمنيّا) في أذهاننا حقيقةً مفادها أن هذا "اللقيط" المنبوذ، ما كان سوى ثمرة علاقة غير شرعيّة، نتيجة الوقوع في المحظور..
فمن قصد الكاتب بالمُنجِبِ ومن قصد باللّقيط؟
غموض الضمير في الفعل أنجب و الاكتفاء بوصف المشبه باللّقيط؛ يفتح مجالات عدة للتأويل، فظاهر الومضة يتحدث عن الأمّ أو المرأة الزانية، و باطن المعنى مع تغييب الكاتب للضمائر، يخفي شمولية عبر تعويمِ المصطلحات، وربما يتجاوزه بالمقصد إلى رؤى أخرى، لها علاقة بخلفيات أخلاقية، كالأفكار أو السّياسات أو المجتمعات.. وباعتبار أنّ المرأة الأمّ، هي المدرسة الأولى للشعوب، إن صلحت صلح الفكر والأساسْ وإن طلحت؛ خرُب الرّأي فتهاوى البناء بغير فأسْ.. لذا، سنركّز على شمولية هذه المعاني الرمزية المجسّدة ضمنيا في المرأة والأمّ، لتكون منطلق تحليلنا لتلك الرؤى المتعددة.
- (أنجبت)، مبتدأ قام على -فعل محمود-، الفاعل هنا مبني للمجهول، بتاء الضمير المتصل بالغائب،، قابله خبر - لمفعول به مذموم- جاء كصفة مشبّهة للمولود الموصوف (باللّقيط).
_أنجبت لقيطا: جملة سببية صادمة منذ البداية، نجح من خلالها الكاتب في إثارة انتباهنا، عبر تلميحه دون تصريحٍ بارتكاب البطلة لفعل آثمٍ، تمثل في قيامها بعملية زناء محرّمة؛ وإنجابها للقيط غير شرعيّ، كان نتيجة فعلٍ محظورٍ أخلاقيا ودينيا واجتماعيّا.
لنتساءل بعدها عن مصير ذاك المولود، خصوصا وأن واقعة الولادة لم تكن نتيجة علاقة مشروعة، وغالب الظن أن البطلة عزباء، فهل ستحافظ على مولودها، وتتحمل مسؤولية خطئها، أم أنها ستتخلّص منه ،،كما هو متوقع،، بإخفائها للقرينة الداّلة على إثمها درءًا للفضيحة والعار الذي سيلحقها ويُشينها؟
جملة من الأسئلة ستظلّ تُخامر أذهاننا، فلا يسعنا إلا التّطرّق للجزء الثاني من الومضة للإجابة عليها.
🔸تحليل جملة العجز: (تبنّته الرذيلة)
جملة حملت في طيّاتها مفارقتان عجيبتان،،
أولها، جعلتنا نتساءل،كيف يتمّ التبنّي لشيئ ملموس (الطفل اللّقيط) من شيئ معنويّ محسوس (الرّذيلة).
وثانيها، كيف لصفة مذمومة (الرذيلة) أن تأتيَ بفعلٍ محمود (التبنّي)..؟!!
فمنطق الأشياء يتضارب مع صياغه الكاتب للجملة النتيجة؛ فجاءت المفارقة مذهلة، ببلوغ الإدهاش ذروته في روح معاني المفردات المستخدمة.
*تبنّى: [ب ن ى] فعل خماسي لازم ومتعد، تبنّى يتتبنّى، تبنَّ تبنِّيًا، فهو متبنٍّ، و المفعول مُتَبَنَّى.
وتبنّى فلاناً: اتخذه ابناً.
وولدٌ مُتبنّى: الذي يتبنّاه من أراد أن يتّخذه ابناً.
و الابن بالتّبنِّي: الذي يصير فردا من العائلة وليس من صُلبها.
وتبنَّى الفكرة: جعلها وكأنّها من أفكاره، يدعو لها ويدافع عنها.
و قد وضعت التشاريع الحديثة أُطرا قانونية للتبنّي صلب مؤسسات ذات صبغة اجتماعية ك دُور التبنّي: وهي بيوت لرعاية الأطفال فاقدي السّند أو الذين فقدوا عائلاتهم الطّبيعية.
*أمّا الرذيلة: فهي الخصيلة الذميمة، وهي تقابل الفضيحة، وجمعها رذائل. والرذيلة: هي القبيح الرديئ من كل شيئ،
رذُل: فعل
رذُل الشيء/ الشخص: ردُؤَ، قبح، واستحق الاحتقار.
و قد ورد في القرآن: {وما نراك اتّبعكَ إلاَّ الّذين هُمْ أراذِلُنا} هود آية ٢٧ ، {قالوا أنُؤمنُ لكَ واتّبعكَ الأرذلونَ} الشعراء- ١١١.
إنّ سلاسة نقل الحدث في الفعل الأول للجملة السببية (أنجبت)، قابله تصعيد وتشديد من خلال الفعل المُشدّد (تبنّته)؛ و كأنّ القاص أراد من اختيار هكذا مصطلح أن يوقِع القارئ في شراك خاتمته ليؤسّس لوقْع الصّدمة المرتقبة.
فهل نجح بذلك حقّا، وهل أوقعنا في براثن الدّهشة..!؟
بالعودة إلى المتن، مع اخفاء الخاتمة (أنجبت لقيطا؛ تبنّته...)
إنّ هاء الضمير المؤنث في فعل تبنّت(ه)، قطعا ستُحيل إلى أذهاننا ضميرًا آخر غير المنجِبِ الأوّل، للإطّلاع بمسؤولية التبنّي.
وصراحة،، توقّتُ ملامح ما ستفشي به الخاتمة من نهاية، واستبقتُها، فمن البديهي أنّ اللّقيط عادة ما يتبرّأ منه أوّلاً (أصحاب تلك العلاقة المشبوهة)، وثانياً المجتمع على اختلاف مشاربه، وذلك راجع بالأساس إلى طبيعة مجتمعاتنا العربية المحافظة، فمجهول النّسب، أو اللّقيط، الذي ينشأ في ظل علاقة غير مشروعة؛ مآله الحتمي هو التّبرأ منه بإلقاءه في الشوارع- وما تحتويه تلك الشوارع من مخاطر وسلبيّات- وفي أفضل الأحوال على عتبات الجوامع أو قرب دور رعاية الأيتام ومجهولي النّسب. وهذا ما كان سيتوقعه غالبية القرّاء.
ولكن؛ مع بداهة هكذا نتيجة محتومة، استطاع الكاتب وببراعة، أن ينتقي من مفردات اللّغة وبداعتها، نتيجةً صادمةً تتماشى مع قانون الومضة القصصيّة؛ فجعل من البداهة المتوقّعة عنصرا للمفارقة والدهشة. عبر توظيفه المتقن و المدروس لمصطلح "الرذيلة" ليرسم لنا الحدث ضمن صورة تعبيرية،حسّية، مزجت ببراعة بين متناقضات المفردات اللّغوية؛ لتضفيَ على النّص أبعاداه الرمزية والإيحائية في مشهد وصفّي بديع؛ بما تضمّنه من انزياح واسقاطٍ في المعنى الدلالي للفظ (الرّذيلة)، ممّا يبقي أحداث الومضة مفتوحة على مصراعيها لمخيّلة المتلقّي حتّى يقتفي تبِعات هكذا تبنّي و ليرصد بقيّة المشهد الآني، بصورٍ لاحقةٍ قد يجد صداها ماثلا أمامه ضمن لقطاتٍ كثيرةٍ من خلال معاينته لواقعه المعيش.
وفي الختام، لا يسعني إلاّ أن أسجّل إعجابي بالنصّ الفائز معنا، مع تقديري للكاتب/القاص: الأستاذ جمال الشمري، الذي يبهرنا دوما بنصوصه الجميلة، العميقة، والبديعة.
بقلم_أ_رصيف_الأمل✒..
...
جميع الحقوق محفوظة ©