قصة قصيرة
إبتسامة عابرة طافت على شفتيه، الباب الذي تسيطر عليه تلك الساعية الضخمة كان عالياً فعلاً كأنه قد صنع لقوم من العماليق،والساعية نفسها بردائها وقمطتها الزرقاء كانت تبدو كجني مصباح ولكنه لايلبي الأمنيات إلا لو دسست في يده ورقة نقدية سحرية تمكنك من تفادي الشتائم المقذعة والنظرات النارية الحاقدة.
شعاع من شمس شباط الخجول تسلل عبر النافذة الشمالية المغلقة جعل خيوط العنكبوت تلمع بألوان قزحية، لكنه لم يستطع تبديد أطنان اليأس والخوف الأصفر المسيطر، إبتسامته التي مرت سابقاً سرعان ماانطفئت؛ انسحبت بشبه إعتذار مرتبك كأنها أدركت أنها في المكان الخاطىء والزمان.
(( شعاع الشمس حط على رقبة حبيبتي كفراشة ساحرة، أنار نهر الزغب الذهبي الناعم..جملة جميلة لكنها قد لاتصلح في هذا المكان الذي تملؤه أصوات الإقياء وهمسات الخوف المبحوحة،
توأم روحي قصت شعرها قصيراً..قصيراً جداً كالعساكر..حتى نظراتها أصبحت مثل نظرات ضابط خبير،هكذا أفضل وأقل حسرة قالت. كل جلسة من هذه الجلسات يمكن أن تصبح بيسر قصة قصيرة: برعبها وألمها،بأشخاصها.
أما لو أردت أن أفصل مشوار العلاج كاملاً فسأحتاج لرواية..رواية طويلة مرهقة موجعة.
منذ البداية شرح لنا الطبيب أن الطريق سيكون طويلاً ومؤلماً: ثمان جلسات علاج كيمياوي،وخمسة وعشرون جلسة أشعة، وربما يمتد العلاج الهرموني لخمس سنوات،تكفل أهل الخبرة ومواقع التواصل بالشروحات الباقية..وبوصفات علاجية بديلة: العنب والبصل! المأكولات البحرية! التين والزيتون بنسبة سبعة إلى واحد! ويدللون على صحة كلامهم: يااخي مذكورة في القرآن! طيب..كل شيء مذكور بالقرآن حتى الذباب هل نتعالج بالذباب؟. بالنهاية هجرنا النت وأغلقنا آذاننا عن كلام الخبراء يكفينا كلام الأطباء..يكفي ويزيد، حتى الكرسي المجاور كلما شغر وعاد فامتلىء يأتيك بأخبار ومخاوف ووصفات جديدة،آخر مريضة جلست إلى جوار زوجتي كانت شخصية عجيبة يكسوها الإصفرار الكالح حتى تظنه لونها الطبيعي، حجاب رأسها كان مائلا؛ً غالباً لأنها فقدت كل شعرها وقد رسمت حاجبيها بقلم الكحل وليتها رسمتهما بشكل صحيح
"يعود الشعر وينمو"سألت، فأجابتها زوجتي: بإذن الله سيعود..ربتت على يدها مطمئنة.
"والورم يعود"
ـ لاسمح الله قالت زوجتي.
عادت لتسأل"القشطة نافعة" رفعت جبينها مع حاجبيها المرسومين بشكل مائل.
هذه السيدة الغريبة تلقي الأسئلة بدون علامات استفهام، اين قرأت هذه الجملة؟ لم أعد أذكر، لا أريد لقصتي أن تتضمن جملا ً مسروقة أو مقتبسة،على الأغلب لن أتذكر شيئاً الآن لحاجتي للنيكوتين، منذ الصباح لم أدخن أي سيجارة ولايمكنني التدخين في مشفى وخاصة بين مرضى السرطان ستكون قلة ذوق غير عادية.. أساساً لايمكنني القيام فزوجتي تمسك بيدي طوال الوقت وتضغط على أصابعي كلما خرج مريض وتهيأت ملكة الدببة للصراخ باسم المريض التالي..يدي أصابها الخدر من زمان)).
من حقيبتها السوداء الموضوعة على حضنها أخرجت زوجتي بيدها الطليقة ثلاثة قطع سكاكر، منحت واحدة لمحدثتها التي كانت رائحة فمها تفوح من أقصى الغرفة إلى أقصاها،وناولتني واحدة بعد أن أزالت غلافها الشفاف وتناولت واحدة ثم ضغطت بأصابعها المتشابكة مع أصابعي
(( حقائب النساء ذلك اللغز العجيب! مهما كانت صغيرة فهي دائماً ككقبعة الحاوي ستخرج لك الأعاجيب، سأخمن ماذا تحوي هذه الحقيبة السحرية: قوارير الكيماوي هذا مؤكد، عدة محاربة القيء: محارم ورقية وأكياس بلاستيكية وحبات السكر..نعم وقارورة الماء، ماذا أيضاً؟ مفاتيح ونقود هذا طبيعي وأدوات زينة، وربما زجاجة عطر صغيرة وماذا أيضاً)).
فتح الباب العالي خرجت المريضة تسندها مرافقة صغيرة ربما ابنتها،تهيأت الدبة الزرقاء للصياح بعينيها المستنفرتين المستفزتين، ضغطت زوجتي على أصابعي مرة أخرى.
ـ رشيد التيناوي.
نهضت زوجتي سريعاً،جذبتني برفق،لكن جسدي يأبى الحراك فقد أصابه التخشب جراء الجلسة الطويلة،ساعدني رجل آخر مد يده تحت إبطي وجذبني.
في الداخل ستكون هناك جلسة أخرى،علاج مضن آخر وقصة أخرى؛ ربما أقول ربما كتب لي أن أكتبها.
. تمت.
جميع الحقوق محفوظة ©