من غير شك أنك لا تعرف عني اسمي ولا سني ولا مدينتي ولا حتى من أين و من أنا، لكني أكتب إليك هذه الحروف والكلمات لعلها تكون لك منهاجا ونبراسا تستنير بها في طريقك، فلتكن مستمعا حريصا، وليكن في صدرك متسعا لكلماتي، ولتسعك صحبتي القصيرة، ولاتضجر ولا تمل مما أحدثك به.
سنفترق عند آخر حرف من آخر سطر من رسالتي هذه.
لا أعلم من أي جيل أنت، لكن مما خبرته من سويعاتي التي عشتها هنا في هذه الدار، لا يختلف جيلك كثيرا عن جيلي ولو اختلفت الوسائل. لكن هدفنا لا يختلف في جوهره مصداقا لقوله تعالى{إلا ليعبدون}.
إعمار الأرض خيرا وعبادة الله سرا وجهرا، أما الثانية فلا اختلاف فيها، ولا يساورني شك في قدرتك على إدراك تلك الحقيقة، حقيقة الوجود، أي وجودنا، التوحيد.. أما الأولى فهي التي أردت أن أخصها بالنصيب الأوفر في رسالتي لك أيها القادم.. كن أنت لأنك مهما حاولت أن لا تكون. ستخسر مرتين، الأولى في أعين الغير، أما الثانية ففي عينك أنت.. كن صادقا مع نفسك في كل شي، سيعطيك ذاك الصدق شعورا بالرضى عن الذات، حينها تكون مع الغير مثل قطر المطر، سهل سلس، لين عذب وصاف، وعند العطاء جواد، تعطي دون مقابل. سيكون عطاؤك غير مشروط، لا أخص بالعطاء ما تعلق بالمنح مادة فقط إنما أعظم العطاءات لا يكون ماديا، إذ أنه يمس القلب. ربما كان حبا او نصيحة او إحسانا، وربما كان أبسط من ذلك كله. ربما بسمة في وجه إنسان، ودرة ما يملك هذا الإنسان، روح الأوطان، وسلاح الدين لسلامة الروح والأبدان.
تلك أعظم العطاءات التي يمكن لإنسان أن يقدمها لإنسان، لكن مما خبرته من زيارتي القصيرة لهاته الحياة؛ أننا ننسى في خضم الحياة عطاءً أجلّ وأعظم؛ ألا وهو عطاء الإنسان للوطن، أن نحبه بصدق وننصح له بصدق؛ إذ لا يكتمل إيمان المرء إلا بحب الوطن. كيف لا وهو الارض والشرف والحمى والأهل والجماد. الوطن الوطن أيها القادم، هو كل ما تركناه لكم لكنه أعظم تركة ولا أشك في تقديركم لها ولا تعظيمكم لها إنما أوصيكم من باب الحرص والحجة والحب قبل ذلك كله. ربما مللت من حديثي أو ضجرت به لكن، تذكرني حينما تكتب رسالتك الأخيرة حينما تكون مغادرا مثلي الآن. رسالتك إلى من هم بعدك ربما ستكرر أغلب كلماتي وحروفي، لكن لا تطل رسالتك، فالصبر ينفد من جيل إلى جيل، وتذكّر.. مهما اختلفت الوسيلة فلا تجعلها إلا في خدمة الهدف الأعظم. لعلّي لا أودعك الآن، فأنا كلي ثقة ويقينا بالله أننا سنلتقي يوما ما هناك حيث لا رسالة اخرى نكتبها. إذ لن يوجد جيل بعدنا سيقرأها، وربما سنقرأ هذه الرسالة بالذات وستكون أنت القارىء وسأكون أنا من ينصت.
******
عائشة إدريس