قصة قصيرة
" البخار الأبيض "
******
لم يعد يزرني أحد . .
كأن امسياتنا الجميلة لم تكن ! .
كنت أجوس الطرقات بحثا عنهم . .
الرفاق تائهون فى شوارع وسط البلد . .
شارع عدلى، ناصية الأمريكين.
نجلس معا في حديقة جروبي المختبئه وسط البنايات .
والشمس المسلطة من سماء ندية ،
نحتسي فناجين الشاى المتصاعد بخاره الأبيض مع أنفاس الشتاء .
ونسرد أخبارنا وأخر حكاياتنا ، تجلجل ضحكاتنا، عندما يقص " عمر " نوادره عن مديره ذى الوجه المفلطح والأنف الغليظ وأذنيه اللتين تحمران عندما يغضب ..
فنضحك غير عابئين بمن حولنا ولا الباعة المؤطرين أرصفة الشوارع، ينادون على بضاعتهم فى ضجر .
أتدفا فى صحبة الرفاق .
يختتم الجلسة صديقنا " سمير " بإحدى قصصه التى تحكى عن الوحدة في أروقة المدينة . .
وافترقنا على وعد بلقاء فيما بعد ..
سنوات مضت على رحيلي من قريتى النائمة فى حضن الجبل .. أشارك صديقا لي غرفة صغيرة بأسطح إحدى البنايات القديمة .
نعمل معا فى نفس الجريدة ..
- " لن تهزمني القاهرة ".
وصرخت بأعلى صوتي .
لم أكن أعلم مقدار حب أصدقائي لي إلا بعد تلك الحادثة . .
حادثة سير ليلي لعربة طائشة اقتلعتني من الأسفلت وأنا أعبر شارع قصر النيل ! . .
في أول تجمع لهم بمقهى البستان طفرت الدموع من عين "سمير"، وكسا الأسى وجة "عمر" ، وندد "عماد" بالموت الذى يخطف أعز الأحباب .
لم يعد أصدقائى كما كانوا ..
لم يعتادوا الضحك بدوني .
شرب القهوة الفرنساوي التى كنا نعشقها - من محل صغير بجانب سينما ميامي - من غيري . تبدلت أحوالهم، ندرت مواعيد لقائهم ..
حتى جنازتي ..
لم أشهد دموعا بهذه الوفرة والغزارة ،
سوى من رفقائي ..
أما الأهل والأقارب فإن الأمر بالنسبة لهم تأدية واجب لا أكثر .
أما أبواي فكانا مكلومين إنهارا بمجرد سماعهما الخبر .. كسا الذهول ملامحهما المتجعدة وباتا يطلبان الصبر والسلوان.
أما انا..
هنا فى وحدتي، لم أعد أأتنس بأحد أو أسامر أحدا ..
ليلي مثل نهاري ..
أنتظر المواسم والاعياد لأحظى برفقة أصدقائي، يأتون فرادى أو جماعات يبادرونني بالتحية ثم يتلون آيات القرآن . .
ينثرون الزهور فوق قبري . .
تقوم "أم سيد" بدلق الماء لينبت الصبار من فوقي .
يتصدقون بما يجودون به، يكلمونني أحيانا وأرد عليهم التحية ..
وأود لو أقدر أن أجلس معهم ..
أسامرهم .
أود لو أستطع أن أروح معهم . إلى حيث
الشوارع والناس ! .
ويختتمون الزيارة بالدعاء لي بالرحمة والمغفرة على وعد بزيارة أخرى .
ومنذ خمس سنوات . . لم يزرني أحد ! .
انقطعت زيارة الأهل والأقارب . .
بت أرقب وحدتي وهى تكبر وتنمو كالأشجار الوارفة التى تحوط فناء المدفن..
نباح الكلاب الضالة يشق صمت المكان . ينبهني عل صوت أقدام آتية على المدق الترابى المفضي من طريق الأسفلت حيث العربات والمارة . .
لكن لا أحد يأتي ! ..
لم يعد يتذكرني الرفاق ؟ . .
أغيبتهم الشواغل والملاهي ؟ ..
هل أقعد المرض والحزن أبواي فلم يعودا يقويان على المجئ ..
هل مازال الأصدقاء يتسامرون في حديقة جروبي ..
هل مازلتُ أجول بخاطرهم ؟.
أما زال الناس يروحون ويجيئون في شوارع وسط البلد ؟ .
والمقهى الصغير المنزوي خلف البنايات في موقعه ..
يسخر من تغير رواده .
هل مازالت المدينة بقلبها الجامد .
وعيونها الحجرية التي لا تدمع ..
هل مازال شرطي المرور واقفا في إشارة شارع طلعت حرب ..
يزعق للعربات المخالفة ثم يشيح بيده في سأم .
أم مازال شاي حديقة جروبي ساخناً . . يتصاعد بخاره الأبيض ! .
*******
مهاب حسين / مصر.