زمرة الأدب الملكية

ما أكثر الأقلام إن فتشت محصيها،، فيها العلم وجلها غثاء من حطب،، وريشة الفهم إن جئت تطلبها،، فدواتها نحن عرين زمرة الأدب..

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

قراءة انطباعية _ بقلم: الأديبة / كنانة حاتم عيسى - في نص " انتظار _ بقلم: الكاتبة / ﻋﺒﻴﺮ عزاوي


 



قراءة انطباعية بقلم: كنانة حاتم عيسى


في نص " انتظار " للأستاذة ﻋﺒﻴﺮ عزاوي


انتظار


*****


كعادتي كلما دخلنا موقعاً ًلإخلائه بعد انقضاء القتال أوانتهاء الغارات ؛ وأحياناً كثيرة تحت الخطر؛ وبعد البحث عن الناجين والجرحى وإنتشال الجثث ، أدقق جيداً في عملية لمّ الأشلاء لئلا أنسى قطعة ولو صغيرة من جسد آدمي .وبعد أن أنتهي؛ أنتظر في الموقع لبضع دقائق ؛ أجلس في زاوية أطالع المكان ، يعرف أصدقائي عادتي هذه ويسخرون مني بسببها متعللين باحتياجنا لسرعة الحركة والعمل والإنقاذ ؛ لكني لا أقاوم رغبتي الجامحة في الجلوس قليلاً في إحدى زوايا الموقع؛ أتأمل المشهد مهما كان دامياً ؛ أحاول أن أسمع صدى أصوات؛ أو ضحكات تترامى من عمق قديم أيام كان المكان عامراً بأهله، أتحرى همسات مختبئة في ثنايا الحطام حتى لا أنسى أن ما ننتشله من جثث او ما نلمّه من أشلاء هي لبشر كانوا هنا يضحكون ويبكون ويحبون ويتألمون .

هذه المرة طال تأملي قليلاً؛ لم يكن المنظر غريباً هذا ما اعتدته بحكم عملي الميداني؛ لكن ما لفتني في هذا الموقع ليس الركام وأكوام الحجارة المتناثرة في كل مكان بل الجدار الذي بقي منتصباً بينما تحطم كل شيء حوله وتراكم الحطام محتضناً بعضه البعض ؛ /لست أدري لم كان منظر الاحتضان ناقصاً ، ربما الشعور بالفزع الذي لايزال يصبغ كل شيء بلونه الكابي ، ويسبب لي الارتعاش الذي لم يتوقف كل هذه الفترة من الزمن/ .

قطرات الدم المرشوقة على الجدار مازالت حارة طازجة، رغم مرور وقت على ماحدث قبل مجيئي ؛ صهد بخار يملأ المكان يغبش الرؤية علي، لكني أسمع همسات ووشوشات أمعن النظر فإذ بطيفين لرجل وامرأة واقفين يتهامسان يقول الرجل : انتبهي لخطواتك .

تضحك ضحكة مقتضبة : - هل ستعلمني كيف أمشي في بيتي ؛ أعرف كل بلاطة.

وسبقته بخطوة فتشبث بها: -تمهلي لم يحن الوقت بعد ..

- أتذكرين؟ هنا كان ينام يونس.

هزت رأسها : - نعم وهناك غرفة سعاد

-(الله يرضى عليهما ) لم يعاندا كثيرا ذهبا معنا بسرعة أما هذا المشاكس سعد ، دائما ما يعاندنا ويماطل في تنفيذ مانريده منه .

- نعم هو الصغير المدلل.

- لاتغضب منه سيرافقنا الآن بهدوء .

تناثرت ذرات من جانبي الجدار وتململت حجرات صغيرات وبدا وكأنه يهتز . اقتربت المرأة بخطى وئيدة فتوردت قطرات الدم مررت يدها فوقها وتشممت ريحها ، وهمست : سعد سعد !!!

أخذت الخطوط والتعرجات ترتسم على صفحة الجدار وراء القطرات ؛ و تحولت لشاشة عملاقة ؛ يظهر فيها مشهد يشبه مقطعاً من فيلم؛ الخطوط تتخذ أشكال طائرات ومدافع وأناس يهربون تحت وابل القصف؛ يدوي صوت رصاص ومدافع ؛ يخفت الدوي؛ ثم تلمع سكاكين بنصول حادة . فجأة صار المشهد حياً ونحن بداخله ؛ طائرة تلقي بحممها على الطريق ، ورشق رصاص يعفر وجه الهواء ، البيت يهتز وينشج يكسر بابه ويلج أشخاص بعصابات رأس سوداء يلوذون من القصف بهذا البيت ؛ تنتهي الغارات ويهدأ أزيز الرصاص؛ الرجال اللائذون بإحدى غرف البيت يخرجون غاضبين؛ يشهرون سكاكينهم يصرخون بوجه أصحاب البيت ، اصطفوا عند الجدار ؛ يتمتمون : كفرة مارقون ، وتبدأ الرؤوس بالتطاير : سعاد أولا ثم يونس الأم ثم الأب . سعد وحده نجا من المذبحة فقد كان مختبئاً في فتحة مخفية تحت الجداركانت مكان لعبه الأثير .

أعتم الجدار وتلاشي الفيلم القصير وعاد أمامي الآن نفس المشهد الأول : الرجل و المراة وهي تتلمس القطرات وتشمها وتهمس مرة أخرى : سعد .. سعد.... سعد ولم تكد تكمل لفظ اسم سعد للمرة الثالثة حتى انقض الجدار وتهاوت حجارته

بدت الفتحة السرية وفيها جسد ملفوف ببطانية فضية اللون مشربة بحمرة باهتة . اقتربت المراة نزعت البطانية عن الجسد الملفوف فتدحرجت رأس طفل يبدو في العاشرة او الحادية عشرة من عمره بعينين مفتوحتين لامعتين بدمع ساكن .

من خلف الجدار المتهدم ظهر الطفل نفسه هرع يعانق الطيفين ويهمس: أنتظركم منذ ثلاث سنين.

التحمت الأطياف الثالثة وهي تغادر الموقع بهالة بيضاء ؛ فرغ الموقع وبدا كأني فقدت عملي ؛ فارتعش قلبي اللاطي بكوم ركام مقابل لهم .

و تذكرت دخولنا لهذا الموقع من ثلاث سنوات كنت أول من دخل و لم أكد أضع رجلي في المكان حتى دوى صوت انفجار هائل ، غادر رفاقي المسعفون المكان ولم يعودوا قط، بينما بقيت انا هنا أحدق بالجدار المقابل ؛ أراقب قطرات الدم وهي تفور وتتمدد كل يوم ثم تعود لوضعها الطبيعي. ثلاث سنوات وهي تلمع وتفور، وتتمدد وتتقلص.

هي تنتظر ، وأنا أنتظر.



°°°°°°°°°°°°


القراءة الانطباعية


*****


ثقافة المكان وخلل الراوي


إن أردنا أن نتحدث عن نص، تفرد بلغته، الأدبية وبحسية روحانية هائلة وبنكهة سوداوية شيقة وبخلق مدهش لشخصية المكان الاستثنائية ، ثم بحاله من اضطراب عقلي يسببه الراوي الذي لاتدرك أنك تؤمن بنسخته من الحكاية حتى تنتهي منك الحكاية. فنحن نتحدث عن هذا النص.


يبدأ النص بتكوين المكان وأنسنة كيانه، فهو يقلب المشاهد تباعًا،  كفلم سينمائي، مغيرًا وتيرة الحدث، وصانعًا مفارقات مشهدية  للراوي فيظهر لنا الاستهلال أن عمله الميداني كمسعف أتاح له فرصة ممارسة تلك الهواية العجيبة من تأمل الأمكنة وتخيل الناس الذين سكنوها بعد موتهم المأساوي في أماكن الصراع الملتهبة.

تبرع الكاتبة في خلق وجدان خاص للمكان يتعدى  طبيعته الملموسة المرئية والمتفاعلة مع الراوي بسبب استخدام لغة حسية عالية الوتيرة من أفعال متلاحقة، وتصوير زخم. 

 فهو يتلو علينا قصة شخصيات أربعة قضوا علي يد الإرهاب المختل بدون ذنب، وهاهي حياتهم تتكرر كوعي مطلق في قلب المكان، فهذا (الجدار) اعتراف يدين صمت الرأي العام أو كحوار صامت مع الحضارة الإنسانية التي تتسلى بقصص المنكوبين في هذا الجزء من العالم، 

شىء يجعل القارئ غارقًا فى جانبه ( المؤنسن  و القوطي) و فيتابع مشهديته بلهفة ويتشبث بحوار شخصياته الموتى، حتى ينتصب في نهاية السرد مخبرًا المتلقي  بقصة الراوي نفسه، الذي سيفجعك بانتمائه لنفس العالم البرزخي الذي يكرر نفسه، في دعوة ليقظة العقول وضمائرها. في حرب لم ترحم حتى الجيوش البيضاء ودعاه السلام والمنقذين.


أدهشتنا الكاتبة في خلق صلة ثقة وإدراك بين المتلقي والراوي، فقد بُدأ الاستهلال بأسلوب يحملك علي مجارة راوي قصتك الشيقة والإيمان برؤيته والانغماس في عاداته وهواياته،  لانك وثقت بوجهة نظره وانتميت لعالمه الآني  الموصوف بدقة. ولا يمكننا هنا إلا أن نرى الارتباط الخفي المدهش لأسلوب الكاتبة مع الراوي إدغار آلان بو في قصته الشهيرة (القلب الواشي)(the tell-tale Heart)

 حيث ثقتك بوجهة نظر الراوي التي وجبت أن تكون حيادية تبعد عن نظرك الحقيقة الواهنة، أسلوب الراوي المقنع  السلس سيبعد عنك المنطق السليم  في قراءة جنونه وجريمته، وستنتهي إلي دهشة تستبيح له فيها عذرًا لارتكاب فعله بينما ستتعاطف مع المسعف الشبح الذي يخبرك الحكاية الموجعة وتغفر له تآمره عليك وانتقامه منك أيضًا، 

لزجك في عالمه المؤلم حيث الجثث البريئة ما زالت قادرة على الحياة  بوعيها رغم قسوة كل شيء. 

نحن أمام نص... تكاملت عناصر سرده وانتصب بجمال لغوي وحسي، ولم يكن رفيقًا بوعي القارئ النفسي والوجداني  فقد قدمه  بشجاعة مُرّة، صورت فظائع الحروب وقسوتها، التي تلتهم الأطفال أولا وتنتهي  بدعاه السلام والمنقذين الأبرياء ثانيًا منطلقًا من سلسلة مشهدية صادمة لن تغادر متلقيها، ولن تتوقف عن صفعه أبدًا.

لن ينتهي (انتظار) الأشباح لعدالة ما، طالما أن الدم البريء يُسفك لشعارات وهمية  تقوم على أنقاض الإنسانية...... 

إذهال..... بورك مداد الكاتبة المبدعة.


*******


كنانة حاتم عيسى


















عن الكاتب

زمرة الأدب الملكية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

المتابعون

Translate

جميع الحقوق محفوظة

زمرة الأدب الملكية