دراسة نقدية لنص الأستاذ: علاء طبال
(جيمس آنتواني)
تحية كبيرة لمبدع النص المثقف الغارق في كتب الفلسفةو السرد الروائي والقراءات الغامضة، والذي أدهشنا بقدرته على السرد أصالة وتجديدا وتمردًا،
بين جيمس آنتواني وجمال العطواني حكاية هوية متقلبة،عاجزة عن الانتماء، يتحول فيها الجماد الصامت إلى حقيقة عبثية، لا تنتظم في إيديولوجية واحدة، بل تعبر بثقة عبر فكر متقولب يسكننا جميعًا،نحن الغرباء في أوطاننا أولاً،التائهون في بلاد الغربة الموحشة. عاجزون عن خلق حيز يمثلنا،متخبطون في غرز جذورنا في الأمكنة التي ترفضنا،جبناء أمام عقدة الأجنبي المسيطر. مثقفين مبدئين، متمردين ليبرالين، أو كادحين سطحيين نختبئ في الظلال.
كم يبدو جمال العطواني، هذا الشخص البسيط الذي تحركه غريزته نحو الانتماء، مألوفًا، نمطيًا وهامشيًا،غارقًا في أخيلته الجنسية العابثة ،عاجزًا عن الانتماء حتى في شبقه، يسرق الثياب التي أوتمن على تنظيفها. لغاية لا يدركها المتلقي إلا في النهاية اللامتوقعة التي تصدم القارئ نفسيًا، وتعيده للولوج في عالم هذا الشاب المقهور الذي حكمته جنسيته بالاختباء، خلف طقوس مبهمة تشبع إنسانيته و خيبته و الرفض الممارس عليه.
انتصار مؤقت يعيشه في عالمه المشحون بالخيالات..
والأوهام،على شكل فرص طقسية وجيزة
وكما ورد في النص:
قد تكون هذه الفرصةُ الفرصةَ الأخيرة له، وإن تخاذل قد لا يتيسر له غنم الثياب النسائية المناسبة ثانية
فالثياب الداخلية النسائية تأتي على غير التوقعات، لتكسو حلمًا أنثويًا،،لتشكل جسرًا مزيفًا، تنتقل فيه هوية (جمال العطواني) المتفتتة إلى واقع يقتنصه ( جيمس آنتواني) ،الذي بسهولة ويسر سينتمي إلى أنثاه الأمريكية، إلى الحلم بالاستقرار والمواطنة والتجذر.
.السرد المقطعي والراوي العليم
اعتمد الكاتب السرد المقطعي المعنون بأرقام متتالية، أراد بها فصل وعي القارئ عن عالم البطل المشوش ،وطقوسه في وصفته السرية التي ستعيد شعورها بالمواطنة في عالم فوضوي، تتكالب فيه الجريمة والتفسخ الأخلاقي على السيطرة المجتمعية، فالمقطع الأول هو استهلال تدريجي يقدم لنا البطل المخذول اللامتوازن،بينما يفسر المقطع الثاني تمرده الجنسي المفترض على المكان المتأزم الغارق بالرذيلة والجريمة وربطه بحسية دقيقة، برعت لغة المتن بتصويرها بذكاء،ليظهر المقطع الثالث براعة البطل الذي لانملك تجاهه الشعور بالحياد، وهو يستدرج ضحيته لينال مكونات وصفته السحرية التي توقعنا في فخ الإيروسية المفترضة، فيأتي المقطع الرابع كشفًا شيقًا لجنون من نوع خاص، يطلق المسكوت عنه بشجاعة، حين يستبدل جمال بحثه عن الحلم الأمريكي المفترض، بموقعه على الشرفة، كجماد لاحول ولا وقوة له يشاهد عبور الحياة ولا يعيشها. هل نثق بالراوي الذي يحول إيديولوجية نفسية إلى إسقاط سياسي مجتمعي ؟و بأسلوب شيق مقتضب واعٍ؟ورغم كلية معرفته فنحن كقراء نقف أمام شجاعة طرحه وتحيزه الظاهر لبطله المشوش المحكوم بالخيبات وصراع الوجود والذي حول موته الرمزي لصرخة أليمة ترغب بالقبول وكما ورد في النص :
وإن سألتموني عن الطريقة التي أمَّن بها الرخام سأجيب بكل ثقة ودون تردد:
لا أعرف لكن الساحر الذي حذق السحر واجتهد في تعلمه لا يعيه شيء
رمزية غسل الثياب المتسخة والبطاقة الخضراء
اراد الكاتب أن يخلق مفارقة ساخرة، هل المواطنة الحقيقية في مجتمع فاسد تتطلب إجراءات التطهير، هل الدخلاء والمهاجرون الغير شرعيون والساعون للجنسية البديلة هم من يغسلون ذنوب مجتمع يريدون ان يكونوا جزءً منه؟ وماهو حجم التنازلات القاهرة التي يبذلها العرب المنبوذون، المهمشون، الغرباء في سبيل الاعتراف بهم في منظومة رصد البحث عن وطن مدان بالعنصرية العرقية والتحيز والرفض
المحاكاة الواقعية للفن
نستطيع بسهولة تحديد التقاطع الميثيولوجي لقصة بيجماليون والبطل. فقد كره بجماليون النساء لكنه انتهى إلى نحت تمثال امرأة سماها(جالاتيا) و وقع في حبها، لتحولها فينوس لامرأة حقيقية يعيش معها قصة عشقه الخالد وزواجه منها. ٠ على عكس البطل المهمش الذي يتفنن في حب المرأة وتفاصيلها الجنسانية، فيخلقها من العدم، ويكسوها بمسروقاته الفتشية ويسلمها لنسخته الأمريكية الأجدر، وكما ورد في النص:
تمم العطواني منحوتته الأنثى من الرأس إلى القدمين ومن القبعة إلى الحذاء، فهو لا يريد أن يهدر طاقته فور حصوله على هويته الجديدة بالبحث عن عشيقة أحلامه
تظهر عذابات البطل، كانتصارات (وصفته السحرية) وهزائم مؤلمةعلى شكل أصنام جاحدة تطالب بأخذ دورهاعلى الشرفة، لأن هناك المزيد من الألم في مكان ما ينتظر الغرباء في غير أوطانهم.
اللاشعور وروائح الجسد
من المدهش استخدام الرموز الجنسية بشكل متعمد للتعبير عن واقع المواطنة المهزوز بشكل غير متعمد،
فالبطل ضحية لواقع اللاشعور الجمعي الذي يحكمه بانحراف سلوكي مفرط يستدعي كل الآلام النفسية العميقة والقهر المجتمعي، فالخيالات والأوهام الممتزجة التي تحركها ظاهريا الرغبة الجنسية(روائح الجسد) ماهي إلا تورية قصدية ترصد العجز عن الارتباط بواقع بديل والانتماء له، وكما ورد في النص:
روائح الجسد الشيء الهام في وصفته السحرية التي ستمنحه ما عجز الغرب العظيم حتى عن منحه إياه،
هوية جديدة انسلاخاً تاماً عن كل ما يربطه بأصله وفصله وقومه وسحنته القذرة العربية، التي عمل جاهداً طوال عيشه في أمريكا على التخلص منها.
نص سريالي مدهش،،شرع الأبواب المغلقة بشجاعة، ومزج مفاهيم الصراع الإنساني للمغترب العربي،بصيغة نفسية شيقة، ولغة متمكنة استثنائية،أبدعت في صياغة الملامح النفسية العميقة للبطل التراجيدي اللانمطي،في موته الرمزي وفشله في العبور إلى مواطنة سعيدة يعيش فيها الحب والحياة بدون التكفير(غسيل الثياب) عن ذنوب المجتمع الذي جاء منه أو المجتمع الذي سينتمي إليه.
Kinana Eissa
22,8,2021
« النص »
لما خطرت قدامه بخطواتها الرشيقة سالت رغبته مع قطرات لعاب على أرضية محل غسيل الملابس، وصَلَّته حمم جسده وفارت، فالتمعت أمام عينيه القطع المفقودة لمشروع الهوية الذي منى نفسه بإنجازه ولو طال الزمان.
انتظر على أحر من الجمر أن تدخل ذات يوم لينقض عليها، وبالرغم من التحذيرات الكثيرة التي كالها صاحب المتجر له كي يحجم عن مزاحمة زملائه في مخاطبة الزبائن، حتى لا تثير ملامحه العربية الفزع في قلوبهم، إلا أنه وطَّن العزم على ذلك.
قد تكون هذه الفرصةُ الفرصةَ الأخيرة له، وإن تخاذل قد لا يتيسر له غنم الثياب النسائية المناسبة ثانية.
-٢-
لهث جمال عطواني لهاثاً كاد يهشم ضلوعه ويقطع رئتيه، بعد نجاحه بالجهد الجهيد في جرجرة منحوتته جيمس آنتواني إلى الشرفة.
لا شيء سيبدو للعابر مريباً في ذلك البناء الباهت الفقير الذي يقيم العطواني فيه المكتظ بالمهاجرين البائسين في حي شارلستون في بوسطن، اللهم إلا إذا سقطت عليه أو أمامه جثة تفنن أحد القاطنين بقتلها وإلقائها من عل بأسلوب غير مسبوق، أو إذا تمكن منخاراه من التقاط خليط الروائح غير المتجانسة المنبعث من المنحوتة الرخامية البيضاء، فالعطواني كساه بمختلف القطع التي تغولها من هذا وذاك ببراعة وخفة يد.
وإن سألتموني عن الطريقة التي أمَّن بها الرخام سأجيب بكل ثقة ودون تردد: لا أعرف لكن الساحر الذي حذق السحر واجتهد في تعلمه لا يعيه شيء.
-٣-
جاء اليوم المنتظر.
كان حريصاً مذ دخولها على الاقتراب منها بأكبر مسافة ممكنة والتلصص عليها ورصد تضاريس وتقاطيع جسدها الحليبي قبل أن يخاطبها، أراد أن يختار لحظة مناسبة يكون فيها قادراً على استجماع قوته وشجاعته، والتحكم في ارتجاف بدنه وارتعاشات صوته وجفونه، لحظة تجول فيها عيناها الكحيلتان الزرقاوان في المكان طلباً للعون.
وما هي إلا ثوانٍ حتى وقعت على أقرب عامل منها أي عليه، فتقدمت صوبه بمشيتها اللينة المتمايلة، تسارع وجيب قلبه وأحس بالعرق يتفصد من جبينه غزيراً، وعندما صارت إزاءه بدت له أشد فتنة:
- لو سمحت، أريدك أن تغسل ملابسي.
اختلط الكلام في جمجمته بكلام قثاءته المتوثبة الساخنة، فخيل له لهنيهة أنها قالت: لو سمحت أريدك أن .... ، لكنه استدرك سهوه بسرعة:
- أنا في الخدمة سيدتي.
- أرجوك أن تحرص عليها فهي غالية.
وما فتئ جنون خيارته يملي عليه قولها حتى رد عليها بصعوبة، وهو يبتلع تحلب ريقه الغزير وماء أخيلته عبثاً:
- سأكون أكثر من حريص.
- شكراً للطفك.
ثم انعطفت مستعجلة تاركة بين يديه شيئاً منها ومضت، روائح الجسد الشيء الهام في وصفته السحرية التي ستمنحه ما عجز الغرب العظيم حتى عن منحه إياه، هوية جديدة انسلاخاً تاماً عن كل ما يربطه بأصله وفصله وقومه وسحنته القذرة العربية، التي عمل جاهداً طوال عيشه في أمريكا على التخلص منها.
تغلغلت يده داخل محتويات الكيس وهي ترتجف من فرط اللذة، وطفق خياله يعانق روائحها.
-٤-
لم يعد جيمس آنتواني وحيداً على الشرفة.
تمم العطواني منحوتته الأنثى من الرأس إلى القدمين ومن القبعة إلى الحذاء، فهو لا يريد أن يهدر طاقته فور حصوله على هويته الجديدة بالبحث عن عشيقة أحلامه، وبعد أن التقط أنفاسه متمهلاً شرع في استكمال الطقوس السحرية.
دبت الحياة في المنحوتتين رويداً رويداً وما هي إلا لحظات حتى راحا يرزوان المكان بأعينهما بخوف وذهول، كأنهما استيقظا بعد نوم عميق طال أمده، أما هو فسارع إلى احتضانهما بجذل مما زاد في حيرتهما.
وقبل أن يتفوه آنتواني بشيء ضغط العطواني على يمناه بقسوة كأنه يريد هصرها في يده وهو يتمتم بالطلاسم.
انتفض جيمس انتفاض الملدوغ لما فاضت روح جمال وانتقلت إلى جسده، بعيد دقائق حمل جيمس جمال ووضعه في المكان الذي كان واقفاً فيه في الشرفة، ثم شابك يده بيد أنثاه وانطلقا مبتعدين.
واجه التمثال السعيد شمس يونيو بابتسامة عريضة كشفت عن أسنانه النخرة
- انتهت -
...
علاء طبال