قراءة الناقدة: سهيلة حماد
في نص « ولادتان » للكاتب: ثائر البياتي
••••••••••
صارت نجمة لامعة فى سماء الأدب العربي،
تنير النصوص، وتنطق بالمسكوت عنه،
وتضفى على النص جمالا وحياة؛ إنها
الناقدة الاكاديمية المبدعة: Souheyla Hammed
ودراسة لنص ولادتان للكاتب: ثائر البياتي.
•••••••••••
القصة
« ولادتين »
--------
ومازلت بعد هذا العمر موقنا بأنني ولدت في باب الشيخ قبل أن أولد في تل محمد ، فأنا أعرف زقاقنا الحاضن لساكنيه مثل أم حنون بساقيته الضيقة الممتدة من أوله الى آخره وشناشيله المتقابلة المتقاربة إلا من فسحة تنثال منها أشعة الشمس وقطرات المطر ، وأعرف برودة (الفرشي) و(الكرويتة)التي يقيل عليها أبي والزاوية التي (تتربع )فيها أمي لتعد الكبة أو (تلف الدولمة) والنخلة المنتصبة وسط الحوش ، وأعرف الدجاجة الحمراء والبيضاء والديك زاهي الالوان في القن على سطحنا الترابي ، وأعرف ماكان يفعله أخي الأوسط على سطح بيتنا حين تصعد جارتنا الحلوة الى سطح بيتها .. أحفظ حكايات الشقاوات و( الچرخچية) والطنطل اللابد في الزوايا المظلمة حتى إنني حين يحكي لنا أبي إحدى حكاياته الطريفة أو مغامراته ألمثيرة أهز رأسي مؤيدا وأقول (نعم يا أبي..صحيح يا أبي) لكنهم يضحكون فيضمني أبي الى صدره ويربت برفق على ظهري ، وفي جلسات السمر حين يقلبون ألبوم صور الابيض والاسود اشير بسبابتي الى نفسي واقول ( وهذا انا) فيضجون بالضحك ويمازحونني حتى تدمع عيناي من الضحك لكني لم افهم ما الذي كان يعنيه اخي بقوله (لهذا الولد خيال بلا حدود )..وبالرغم من يقيني بانني ولدت في باب الشيخ قبل ان اولد في تل محمد بسنوات طوال الا انني لم استطع اقناع احد ..بعد حين صار ابي قلقا ولم يعد يحكي لنا حكاياته الا قليلا ، بعدها صار مهموما فسكت عن سرد حكاياته نهائيا حتى انه ذات مرة امسك برأسي بكفيه الدافئين وبعينين حزينتين قال(لا تفعل هذا بي يا ولدي فلا احتمل ان ارى واحدا منكم مريضا ، وليته ظاهرا لعالجته بروحي وياليته جرحا لضمدته بقلبي)، ولم تكتف امي بالدعاء فقد علقت على صدر دشداشتي من الداخل حجابا يطرد الجن وصارت تدور حولي بمبخرتها سبعا كل غروب وهي تبسمل وتقرأ ايات من القران ، وكلما توسدت رجل امي واخبرتها بانني كنت هناك تمسح على رأسي بلطف وتجيب بصوت متهدج(نعم يا حبيبي ) وتسقط على رأسي قطرات من دموعها الدافئة ويعتدل ابي بجلسته ماصا سيجارته بقوة ونافثا دخانها بقوة وهو يحوقل ويردد (رحمتك يا الهي)..لكن القلق والخوف لم يظهرا على اخواني فواحد يصطحبني معه الى سينما (البيضاء) القريبة في بداية بغداد الجديدة، والثاني يشتري لي (النستلة)التي احبها ، والثالث يطيب له اللعب معي فيدور خلفي في الحجرة متوعدا ان هو امسك بي سيجعلني اضحك الى اليوم التالي ..بعد بضعة شهور صرت اخاف على امي وابي فسكت ولم اعد اذكر الامر ابدا ، وحين يقربون صورة بالابيض والاسود من عيني ويسألونني من في الصورة ؟ اذكر اسمائهم واحدا واحدا واشير بسبابتي اليهم دون ان اشير الى نفسي، اعلم انني بهذا اعدت الراحة الى قلب ابي واعدت الفرحة الى قلب امي لكن يقيني بانني ولدت في باب الشيخ قبل ان اولد في تل محمد بسنوات طوال لم يضعف ابدا ، وصرت الوب منتظرا فرصة ملائمة لكن سكوتي وكبتي ليقيني اثقل صدري و اوجعه ..واذكر ان فرصة واحدة اتيحت لي فرصة واحدة فقط لم تتكرر ثانية ابدا حين انتهزتها ارتاح قلبي حين توسدت ذات ليلة ذراع اخي الكبير لننام فاخبرته بانني كنت هناك وسألته بصوت خفيض (الا تصدقني؟) فضحك ونكش شعري مازحا واجابني بصوت خفيض(لو كل الناس كذبوك انا اصدقك) فنمت هانئا ملء جفوني وكأنني لم انم قبل تلك الليلة …
--------------
ثائر البياتي
•••••
القراءة:
•••••
عنوان القراءة: إعادة النظر في سياسة القطيع والنّقل والاجترار من دون إعمال للعقل في القصّة القصيرة ولادتان للقاص ثائر البياتي
نص استجاب لمعظم مقوّمات القصة القصيرة حيث اعتنى القاص ثائر البياتي بمجمل قواعدها اعتنى بوحدة الحدث وبمنطقية العلاقة بين السبب والنتيجة الذي خدمه التشويق في مسار الحبكة ذلك أنه التزم في بناء قصته على أسس متفق عليها من أهل الذكر من ذلك حسن تخمّر فكرته ممّا سهل عليه ضخها في قالب على مقاس موضوعه لم يهمل الزّمان ولا المكان أحسن توظيف الحوار في لغة سلسةأنطق عبرها الزّمان وحرّك الوجد والوجدانودغدغ الانف برائحة الطعام والأمكنة وهذب الذوق....
الموضوع:
طرح ظاهرة قد تبدو غريبة غير أننا لا نستطيع إنكارها، وهي ما زالت موضوع بحث المختصين، حيث أن الإنسان قد يعيش الحدث أكثر من مرّة، ولكن حسب رأيي ما يحسب للكاتب هي تلك المقدرة على التدرّج في الطّرح والعرض في اتساق وانسجام المعنى والمبنى بشكل أقحمنا معه في الموضوع مع اختيار الملفوظ في استرسال جميل مع شيء من الاسهاب والتّكرار ظنا منه لترسيخ الفكرة، كان بامكانه تفاديه لأن القصة القصيرة لا تحتمل "الشّرح والتّحليل وأبداء وجهات النّظر" ، إلا أنّه نجح في شدّ القارئ وجذبه إلى دنياه إلى درجة أنّ كلّ منا قد استرجع حادثة أو أكثر عاشها قرأها أو سمع عنها، وهذا يحسب له بأن جعلنا نصدّقه وهذا دليل على إتقانه لسبك الحبكة، ونجاحه في التأثير على القارئ وتشويقه مع رجّه وحمله على إعمال العقل والتأمل في المعروض للتساؤل عن الغرض من الحكي أهو فعلا تلك المعايشة الحقيقية أو الافتراضية للحدث أو الحلم به، أم أن الرؤية أعمق وأبعد من ذلك؟...
اهمية دور اللغة في النص:
على المستوى اللغوي، نراه أقحم بعض المصطلحات الخاصّة بفنّ الطّبخ، التي تدخل في باب توثيف بعض العادات والتّقاليد التي ترسّخ موروثا ثقافيا وهويّة لتأصيل كيان شعب وحضارة، لحفظها، في نص يعمل عمل الذّاكرة الجماعيّة، وطّده بجغرافيّة المكان، بحيث ذكر لنا حيّين شعبيين، بالعراق لمزيد التّأصيل ولربطها بموروث ثقافي شعبي إنساني عرّفه الإنسان منذ قديم الزّمان ألا هو فنّ الحكي، وربطه برموز لها علاقة بالبيئة، وبرمزيّة جغرافيّة الإنسان، وقد عمل فنّ الحكي من خلال الخرافة والملحمة منذ القديم منذ الخط المسماري الفرعوني، وكذلك القص القرآني والحضارة السّوماريّة على بناء الإنسان، والتعريف بنمط عيشه وتفكيره في كلّ حقبة زمنيّة وبدرجة تطوره ما يعيقه وما يميّزه وبدرجة فطنته.
توظيف رمز اللونين الأبيض والأسود للمقاربة بين الأمس واليوم وبلوغ الرؤية:
ومن خلال هاته القصة القصيرة استطعنا أن نعلم ونقارب بين نمط عيش أسرة وتطورها عبر الزّمن وتطوّر تكنلوجيا فنّ الصّورة على سبيل المثال، التي كانت في ما مضى بالأبيض والأسود، وانعكاس هذين اللونين على فنّ التّعامل، من ذلك ردّة الفعل والتّعامل مع الظّواهر، كانت وفق خطّين متوازيين، إمّا الرّفض أو القبول، والرّفض يقابله خوف من المجهول، من القادم فيتهيؤون له بالتّمائم والتّعزيم وبالخرافات وبالبخور والحوقلة والبسملة، قد تصل إلى الشّعوذة استنجادا بقوى غيبية علّها بذلك تلغي عمل الجان، أو مفعول السّحر لعرقلة أيّة ظاهرة سلبيّة حسب رأيهم ما لم يدركوا بعد أبعادها و حقيقة ماهيتها أملا في الحدّ من استفحالها والقضاء عليها...لاغين بذلك دور العلم... هذا النّمط من السّلوك هو سلوك جماعي قبلي موحّد تحكمه سياسة القطيع، التي ترفض الاختلاف، لأنه يدخل الارتباك على المتحكّم في القبيلة. فالسّلطة مركزية محوريّة ذكورية جوهرية أبوية لا تقبل أي تقاسم في السلطة كما لا تقبل بشراكة أنثوية فعلية بارزة.
غير أن المقتفي لحركة نمو الحدث وتدرجه يستشعر ويتلمس بداية تغيير في الأفق واحتواء جديد لتغطية الحدث ومعالجته فالسينما في حد ذاته،ا رمز دليل لملفوظ صوتي ودلالة أيقونية مشهدية تختلف عن الصّورة في كونها تتحرّك، أي قطعت مع السّكون والجمود قطعت مع الجماد والتمثال، وبذلك أصبح الحراك والمقاومة سمة وعنوان لكل تطوّر وبالتّالي هلّت بشائر التّغيير والتبشير بقادم وبغد أفضل لإيجاد واقع أفضل يتعايش فيه السّوي والمختلف في الجنس واللّون والصوت والصورة والمعتقد والسلوك والتفكير وصاحب الخيال الواسع والمحدود بشكل يحترم فيه الكبير والصغير على حدّ السواء بدون تمييز هذا على ذاك ليستطيب فيه العيش والهناء والنوم كما حصل للصغير الذي نام في حضن اخيه مستمتعا.
الخلاصة مشفوعة بالربط مع العنوان ومع جغرافية الأمكنة :
لما في هذا السّخام من زخم هائل من تغيير الملامح الذي يهدف إلى السطو على المعالم لطمس الهوية..
وبناء على ما سبق ذكره وربطا مع العنوان (ولادتان) وما وفره الأستاذ اسماعيل الرجب يتبيّن لنا أن:"تل محمد ( بنايا ): منطقة سكنية سُميت بهذا الاسم لوجود تل عُثر عليه قريبا منها وفيه آثار حضارية يعود تاريخها الى العصر الأكدي وتبعد مسافة 12كم غرب نهر ديالى والمنطقة السكنية هي بغداد الجديدة. وباب الشيخ منطقة سكنية سُميت بهذا الإسم نسبة إلى الشيخ عبد القادر الكيلاني. وتقع وسط بغداد".
وهكذا يتضح لنا بجلاء أن سبب توظيف الكاتب لهذين الحيين لم يكن اعتباطيا بل ربما لكونهما رمزين من رموز الدلالة التي تقوم عليها الولادتين، بمعنى أن الولادة الثانية ما هي إلا ولادة للوعي والإدراك لدى البطل. فكلاهما أيقونتان دلاليتان تدعمان رؤية التّغيير التي تقطع مع القديم الذي يعتمد النّقل والاجترار من دون إعمال للعقل ودعم لكل مختلف جديد واحتضانه مع مواصلة الحفر والتنقيب، فلا كنوز خارج مركّب العقل والعلم والتّجريب مع ضرورة تفنيد كل منقول ضعيف لا يقبله العقل والمنطق في عصر العلوم...
انتهى
_______
مع الشكر والتقدير للأستاذة: منال خطاب
ولصاحب النص الأستاذ: ثائر البياتي
{ واحة القصة القصيرة }