طيّارة ورق
«قصة قصيرة»
•••••••••
شمس الصيف أكلت وجهي الصغير الذي اعتاد لفحها كل يوم أثناء بيعي للمناديل في إشارات المرور، لكنني لم أنته بعد، لا يزال جبيني يكتنز بضع حبات من العرق لا يصح أن أمضي دون سفكها على أرض هذا النادي الذي ضقت من المجيء إليه، لكن مرض أبي لم يدع أمامي فرصة للاختيار..
_انتبه لعملك جيدا يا ولد، لا تتلكأ.
لا أدري لماذا وصفني بالتلكؤ، رغم أن جسدي يبكي عرقا، ويداي المتسختان تشهدان على همّتي، ربما تلك العرجة في قدمي اليمنى أوحت له بالتلكؤ قليلا، قد ذاب ما تبقى منها وأنا أجوب أرض النادي كنسًا وتنظيفًا، آتي هنا منذ ثلاثة أيام بدلا عن أبي حتى يتعافى.
سرق جمالها بريق عينيّ الضيقتين، وقفت مدهوشا أرقبها في سعادة كست وجهي الذي تفتقر ملامحه إلى بسمة ترتسم على محياه البائس، تحلق بخفة ورشاقة، يمسك بخيوطها ولد في سني تقريبا نظيف الملبس، بهي الطلعة، تجلس أمه بالقرب منه تشعّ منها أنوار الراحة والدعة، تقاسمه الضحكات والصيحات تعليقا على جمال الطائرة الورقية التي ترفرف في سماء الحديقة.
تسللت كاللص نحو ذلك الولد الذي انشغلت أمه قليلا، قرأ اللهفة والعجب في عيني الجاحظتين وفمي المفتوح كالأبله، ابتسم لي، أشار إليّ بيده فاقتربت منه.
_هل تريد أن تجرّب؟
نظرت إلى عربة القمامة ثم إلى تلك الطيارة التي ذهب سحرها بعقلي، ثم راحت عيني تفتش عن ذلك الذي يراقب سير عملي، لكنني لم أره، أومأت للولد فأعطانيها، لم يصدق قلبي الذي تراقصت نبضاته فرحا، كما لم تصدق يدي وهي تمسك بلعبة كهذه لأول مرة مذ خُلِقَتْ.
_ أنت يا ولد، كيف تجرؤ على ذلك..؟!
_أنا الذي أعطيته إياها يا أمي.
غضبت المرأة، وأطلقت لسانها بالسباب، إذ كيف لابنها أن يلعب مع صعلوك مثلي يرسف في أغلال الفقر، جاء المسؤل عن متابعة عملي، اعتذر للمرأة، وقدم طردي قربانا لقبول اعتذاره، كما توعد بطرد أبي إن لم يعد للعمل خلال يومين.
تركتهما وانزويت بعيدا أدفع العربة بدموعي الغاضبة، يجب أن أملأ عيني من تلك العربة، حتى لا أجرؤ مرة أخرى.
في البيت، ترددت قليلا قبل أن أخبر أمي بما حدث، لكنها هوّنت عليّ، قالت إن أبي أوشك أن يتعافى، كذلك وعدتني أن تصنع لي طائرة أفضل من التي رأيتها، فرحت كثيرا، لكن مكانا بقلبي خاف أن يصدق.
نمت ليلتها أصارع حلم الحصول على طيارة ورق، وفي الصباح أحضرت أمي بعض الأوراق والأعواد وعصا صغيرة، كدت أطير فرحا عندما رأيت ما تصنع أمي يقترب شكلا من تلك التي رأيتها مع طفل النادي، فوق سطح البيت، رحت ألهو بها، حاولت معها كثيرا.. كثيرا، لكنها أبت أن تطير..!
•••••••
أسماء محمد