« قراءة » بقلم: الأديب / أحمد فؤاد الهادي
في قصة « ثبات مزعوم » للأديب / محمد كمال سالم
••••••••••••••••••
" القصة "
"ثبات مزعوم"
تجمد هناك أسفل نافذتها، يشعل سيجارة فور انتهائه من أخرى, الشارع يئن تحت وطأة المحال والمارة، شاخصة عيناه صوب الضوء المتسلل من خلال شيش نافذتها، غير عابئ بالزحام من حوله، كذئب يترصد فريسة شاردة.
كان الناظر إليه لا يستطيع تحديد عمره، صدره المنتفخ بصورة متكلفة، عيناه الجاحظتان كأنهما لم يعرفا للنوم سبيلا، سحجات سطحية دامية فوق صدغه الأيسر، ثبات مزعوم، إعلان جرأة كاذبة خادعة، لا يلحظها إلا خبير،
إذا نظر المار إليه يظنه رجلا كامل النضوج.
ارتاب في مكوثه الطويل أحد أصحاب المحال، ذهب إليه مخاطبا:
_(إنت واقف هنا ليه؟ وعايز مين؟!) التفت إليه في كبر، لم ينطق بكلمة، أخرج مطواة من جيبه الخلفي، فتحها بمهارة وسرعة، أشهرها في وجه الرجل بطريقة سينمائية، غادره الرجل خائفا ولم يعقب.
استند بظهره إلى الجدار, أسفل النافذة المنخفضة من الدور الأرضي المرتفع, وراح يتمتم بصوت خفيض كأنما يحدث نفسه:
_سأظل واقفا هنا إلى أن تخرجي, سأعرفك كيف تهجريني أنا، وتبيتين في حضن هذا الجلف!
سأجبرك أن تهجريه وتعودي إلي, لن تتذرعي بعد الآن بقلة المال, وقد أصبحت قادرا على الوصول إليه بكل سبيل, سأقتل لك هذا الجلف الذي أويت إليه إن لم تنصاعي إلي, أو أقتل صغيرك منه الذي تدللين, وألقيتني أنا في مهب الريح, كنت بالأمس محموما أنتظر ضمادتك الباردة تعالجني، نسيت للحظة أنك ما عدت هنا. سأحرق فؤادك عليهما, وأقف أشاهدك تذرفين الدمع, تتوضئين من تراب القبور, تتذوقين طعم المر في حلقي، سأكسر قلبك لتذوقي طعم الألم, ويغادر النوم جفونك للأبد، نعم سأفعلها، ولن أتراجع كالمرة السابقة حين أشفقت عليكِ.
يخبو ضجيج الشارع رويدا رويدا, وهو مازال على حاله، لم يمل أو تتعب قدماه.
تغلق الدكاكين أبوابها وتتطفئ أنوارها واحدا تلو الآخر، يخبو ضوء الشارع، يشعل آخر سيجارة معه، يلقي بالعلبة الفارغة بطول ذراعه غاضبا،
يستدير لمواجهة النافذة، يسقط نورها المتقطع عرضيا على محياه، محياه الذي بدا أكثر غضبا واحتقانا، أخذ منه اليأس مأخذا, أخرج مطواته من جديد, شهرها عاليا بيد، وراح يضرب بالأخري على الشباك الموصد صارخا:
(إنت ياست, اخرجي, اطلعيلي بره هنا انت وابنك الحيلة, اخرجي, وريني وشك.)
يفتح الشباك بسرعة عنيفة, تصطدم ضلفتاه في الجدار محدثة صوتا عاليا، تخرج امرأة متلهفة،صكت وجهها: ابني؟! ( مش اتفقنا تفضل عند ابوك؟)
يظهر خلفها رجل ضخم يصيح في الشاب:
(إنت جاي هنا ليه يابن ال.......عايز إيه يا حرامي؟)
في نفس اللحظة, يعود صاحب المحل الذي كان يسأله عن سبب وقوفه الطويل, وفي صحبته رجلان من الشرطة:
_(هو ده البلطجي يا باشا, اقبضوا عليه.)
يعود الشاب لينظر لزوج أمه، يقول بصوت مهزوم يرتعد:
(سجايري خلصت, هات سيجارة)
..............
« قراءة » بقلم: الأديب / أحمد فؤاد الهادي
في قصة « ثبات مزعوم » للأديب / محمد كمال سالم
« ثبات مزعوم »
وحتى نحمكم على العنوان الذي اختاره الكاتب للنص دعونا نبحر في سطوره ونتابع أحداثه ونتعرف على شخوصه ونستكشف الفكرة التي أراد الكاتب إبرازها من خلال قصته ونرى كيف أبرزها.
فالنص يعالج قضية الانهيار العائلي وانفصال الأبوين واقتسام حطام حياتهما وضمنها الأبناء، ثم انصراف كل منهما إلى حياة جديدة لا يستطيعان معها الوفاء بمسؤولياتهما قبل الأبناء، فكلاهما قد تزوج ولاطاقة له بما خلف وراءه من ضحيا لا ذنب لهم من قريب أو بعيد.
وقد وظف الكاتب شخوصا حركها وأنطفها بعد أن أجاد رسمها بكلمات وتعبيرات محكمة، وجاءت كالتالي:
1- الأب: ظهر تأثيره في أحداث القصة دون أن يظهر على منصتها حيث إنه قد لعب دوره قبل بداية القصة التي كان د مفجرا لأحداثها، وتزوج بأخرى ونفض يديه من تبعات فعلته.
2- الأم: الشريك الثاني فيما ترتب على تفكيك الأسرة، وقد تزوجت بزوج أخر وأنجبت منه رضيعا، وراح كل اهتمامها بالزوج الجديد والرضيع.
3- الابن: وهو الشخصية المحورية في الأحداث، صبي مشرد في الشوارع لفظته أمه وكذلك أبوه، وفي الشارع لم يسلم من أذى الهائمين والبلطجية الذين تركوا آثارهم كدمات وجروح في وجهه، فاضطر أن يتلون بألوانهم فحمل السلاح الأبيض وأدمن التدخين وتبع بعض التمارين فبنى جسدا قويا يفوق أجساد أقرانه.
4- شخصيات مساعدة: زوج الأم ـ صاحب المحل ـ رجال الشرطة
النص: بعد أن رسم القاص صورة الصبي والحالة التي كان عليها والمكان المتربص فيه والريبة التي دفعت بصاحب المحل لاستبيان أمره وردة فعل الصبي العنيفة عليه، انتقلت الريبة إلى القارئ الذي ربط كل ذلك بوقوف الصبى بجوار "نافذتها" حيث استخدم الكاتب ضمير المؤنث الغائب وترك لخيال القارئ استكشاف "كنهها" ثم أضاف لغة التهديد التي استخدمها الصبي ليدفع القارئ دفعا في اتجاه بعيد كل البعد عن الحقيقة، وكأنه كان يشحن القارئ ليعظم المفاجأة التي يمهد لتفجيرها حتى يعظم حجم القضية التي هو بصددها.
واستمر القاص في تصعيد العقدة حتى بلغت ذروتها، ثم بقوة وعصبية انفرجت دلفتا النافذة لتبرز "هي" ويفجر القاص قضيته ويعلنها، وكأن ما كان من بدايات النص حتى هذه اللحظة تجمع عند الشباك لتكتمل صورة واضحة ناطقة بالأسي والحزن، ولتبز القضية جلية واضحة مجلجلة، والقارئ قد تعاطف مع الصبي رغم حالة الإجرام التي كان عليها، وخاف عليه عندما داهمت الشرطة المكان، إلا أن الكاتب أوحى بذكاء الصبي برده الذي كان قد أسس له الكاتب في سرده بأنه دخن آخر سيجارة كانت معه، لتكون حجته أنه لم يكن يريد شيئا سوى سيجاره، حجة ذكية من الصبي وقبله من الكاتب.
وهنا نستطيع أن نقول إن العنوان كان عتبة مناسبة جدا للنص، فثبات الصبي كان فعلا مزعوما، ولكنه قبل هذه النهاية كان الجميع يخشاه كثبات حقيقي، وأقصد بالجميع: شخوص القصة وكذلك القارئ.
وأتخيل القارئ بعد هذه النهاية قد رفع عينيه عن القصة، وتلفت حوله، ولما لم يجد أي من شخوص القصة إلى جواره، تنفس الصعداء وعاد إلى القصة ليعيد قراءتها بمنظور جديد.
أما السرد والأسلوب والعبارات والصور فلا أجمل ولا أبدع.
وللأديب القاص الأستاذ/ محمد كمال سالم أقول: لقد جمعت الذكاء والحرفية والأدب في هذا القالب فائق الروعة
وهذا ليس عليك بغريب، ومتشوقون للمزيد من نتاج قلمكم البديع.
•••••••••
أحمد فؤاد الهادي