زمرة الأدب الملكية

ما أكثر الأقلام إن فتشت محصيها،، فيها العلم وجلها غثاء من حطب،، وريشة الفهم إن جئت تطلبها،، فدواتها نحن عرين زمرة الأدب..

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

قراءة نقدية في نص ( ناعم يا ملح) للأديب الدكتور / أ. سيد شعبان، بقلم / أ. مدحت عبد الجواد




النجاف و(الثُرَيَّا)

قراءة نقدية في نص (ناعم يا ملح) للأديب الدكتور / سيد شعبان،

 بقلم / مدحت عبد الجواد

••••••

جمع الفلاح أبناءه، الذين لا أحصي عددهم؛ ليعلمهم كيف يقوم بـ( عزق الأرض)؟ قال لهم: عليكم بالملاحظة؛ لتتعلموا، ثم أمسك فأسه، وشرع في (عزق الأرض) وهو صامت، والأبناء يراقبون، وبعد وقت غير طويل توقف؛ ليسأل أبناءه الذين يراقبون، ماذا لاحظتم؟
قال أحدهم: لاحظت أنك ضربت الأرض بالفأس ألف ضربة منذ بدأت حتى استرحت، وقال آخر: لاحظت أن العرق غطى وجهك يا أبي، وأن أنفاسك ارتفعت، وبدا عليك التعب الشديد، وقال آخر: لاحظت أنك تضرب الأرض في أماكن متجاورة، وأحيانا تنجح ضربتك في نزع الحشائش، وقد لاتنجح، وقال آخر: لاحظت أنك ترتدي سروالًا طويلًا ربما يناسب العمل، وقال آخر: لاحظت أنك لاترفع ظهرك في كل مرة ترفع فيها الفأس؛ لتضرب الأرض، كما أنك لا ترفع الفأس عاليًا...
قال آخر: ......
رد الفلاح قائلًا: أما أنا فقد عرفت( أنني أخطأتُ حين عملتُ وأنا صامت، بينما كان يجب علىَّ أن أوضح ما أرغب في تعليمه لكم).
- من هنا كانت قراءتي للنص الأدبي تنطلق من الشرح الذي يتجه إلى البنية التحليلية للنص، ثم الفهم الذي يتجه إلى الوحدة المقصدية للخطاب، ويحقق التكامل بينهما تعريفًا حديثًا للأسلوبيات كما يذكره ( سيمبسون، 2004م) وهو أن الأسلوبيات" منهج للتفسير النصي حيث تُعطَى اللغة المكانة الأولية " 
- نجد السر في السرد لدى الدكتور/ سيد شعبان، الذي يرتكز على تكنيك جديد لم نعهده في القصص، وأنا أسميه تسمية خاصة بـ( الثُرَيَّا)، ففي الماضي كانت تدور القصة مرتكزة على محور واحد يتبع ظل الشخصية المفتاح، ثم تطور الأمر لمحورين وربما ثلاثة محاور، لكن صنيع الدكتور/ سيد شعبان جاء مغايرًا بل هو أشبه بصناعة ( الثُرَيَّا)، التي تتصل جميع مصابيحها بمرتكز واحد ثم تضيء جميعا في شكل عنقودي يملأ المكان نورًا، وكل واحدة تضيء منطقة بذاتها، وتتشابه جميعها، لكنها تتكامل؛ لتبعث مع النور بهجة تملأ النفس نورًا وتسر العين بهجة بجمال المنظر، فليس مصباحًا واحدًا بل آلاف المصابيح التي تبهر العيون.
- الأسلوبيات الأدبية: نعرف أن أسلوبيات ( شبيتزر،1887-1960م) والتي أطلق عليها العديد من المصطلحات التي طورتها تحولات الدرس الأسلوبي الحديثة، فمنها أسلوبيات خارجية: هى التي لا تقف عند حدود لغة النص، وبنائه الداخلي، وإنما تحاول تفسير الوعى لا بوصفه ظاهرة فردية، وإنما بوصفه ظاهرة محكومة تاريخيًا وثقافيًا، وهنا نجد القاص يمزج بين لغة السرد ولغة تحاور الأشخاص، وهو ممسك بقوة بعنان لغته، فنجد العنوان ( ناعم ياملح) هى جملة دارجة على ألسن العامة في شوارع بلادنا، لكنها تحملت بآلاف الأبعاد الثقافية، وعندما يقلبها ( ياملح ناعم) فهنا تقدم دلالات مغايرة ذات أبعاد نفسية، وأغوار تثير الشهوات والرغبات النفسية، فتعطي الجملة آلاف الدلالات أو الطاقات الحيوية المتجددة المستمدة من تاريخ وثقافة الشعوب، ولا أبالغ إذا قلت: آلاف القصص التي ترتبط ببائع الملح الذي يجوب البلاد، ويتعامل مع كافة طبقات المجتمع خاصة النساء.
كما نجد صورة واضحة لعدد من المعتقدات الدينية والثوابت الاجتماعية المرتبطة بالبيئة في شهر شعبان أو رمضان، حيث يتسلسل الشياطين.
- أسلوبيات تشخيصية: تستهدف الوصول إلى تحديد الاتجاه النفسي الكامن وراء الشكل اللغوي، ومن ثم فإن هذا الشكل هو بمثابة ( أعراض) لشيء أعمق يتحكم فيه وهو الروح، وهنا نجد أن العمق النفسي عند القاص هو الروح المعذبة التي يسيطر عليها الشقاء، وترصد في العمق قصص الحياة القاسية التي تنبعث من جنباتها حكايات الكفاح في سبيل الحصول على لقمة العيش، فهى مصدر الفخر وسط عتمات القسوة، وشدة الحر التي تملأ الكون عرقًا، لكنه هو نفسه الحر الذي يجعل الخذ متوردًا، ويشرب الجمال حمرة تشع تألقًا في النفس، فكأنه صراع يمتد بجذوره إلى الماضي السحيق بين أمل لا ينفك يلازم صاحبه رغبة في الفكاك من قسوة الحياة، وبين قسوة تلم به في جنبات من عتبات يتخبط فيها في طريق الحياة فتحدث ندوبا لاتزول من روحه الحائرة، فنراه يقول: " ترى من يشترى الضنى وقد امتلأت الحياة رهقا، يا مصلح ياملح! "
- عالج ميشيل هاليدي في كتابه ( المقاربة النسقية الوظيفية) وظائف اللغة وعلاقاتها بالأسلوب الأدبي، وأسسها الوظيفية، واللغة من منظور اجتماعي، ودلالتها، ولعلنا نلاحظ أهمية توجه اللغة نحو المستهلك في نظريته. 
وهذا ما صنعه القاص دكتور/ سيد شعبان، فرغم شدة الحر وقسوة الصيف يأتي البطل على أية حال/ الربط بين الواقع فالصوت يرن بالعبارة ( ناعم يا ملح) ولم يسبق الصوت الرؤية فلن يخرج إلا صاحب الضرورة / الكلاب جزء من تكوين البيئة ولكنها رمز للوفاء/ البركة القديمة تشير إلى زمن مر كان الخير فيه وفيرا / والتميمة تقدم أملًا لكن الأضحية تشير بالرمز على أن الأمل هذا يحتاج إلى تضحية في سبيل الوصول إليه، وقد يراق فيها الدماء لكن اليد مبتورة فهيهات يأتي الأمل، ويرجع الخير؛ لذا فإن (بركة المياه) مياهها صفراء فقد حجبت السدود جريان المياه وتجددها، وأصبح الخير الذي تجلبه السدود زعمًا باطلًا كاذبًا/ تضح إشارة لفساد أهداف الدعاة وتصدير الرضا بالفقر للعامة، وهذا تصوير لفساد الدعاة الذين يزينون الفقر، ويجعلونه مطلبًا يحرص الفقراء عليه، حتى يصرفهم عن فساد الأوضاع المحيطة بهم/ وصف الحارات والأبواب (مسكوكة عمدًا) هى إشارة رمزية لما يصنعه الفاسدون الذين يضيقون على الناس أرزاقهم وطرقهم./
 الربط بين النيل والخيرات واستعمال لفظ ( المحروسة) رغبة منه في أن يحرسها الله، وهذا إسقاط على واقع النيل اليوم في إشارة لأثر السدود التي حرمت الخيرات.
- توظيف استعمال اللون في القصة جاء متميزًا فالثوب الأزرق والنيل بمائه الأزرق دلالات ذات مغزى واللون الأبيض، وحمرة الرمان، والمنديل المطرز، ... وغيرها من الألوان التي وظفها بصورة بعثت الحياة في القصة، وكذلك توظيف الأسماء( رمضان / أم رمضان/ شعبان)، وتوظيف العدد.
- تغير الحال جعله يعقد مقارنة بين الواقع والماضي في تبدل جمال الفتاة ذات العشرين عام. 
________

ناعم يا ملح

يرن الصوت في تتابع، يلفح الصيف وجوه المارة، لا وجود لصريخ ابن يومين، بل حتى لا يفكر في مغادرة بيته المنزوي وراء تلال الخوف والفقر، حتى كلاب السكك الضالة تلهث وتعب من بركة الماء الصفراء، كان ثمة فيضان، منذ أعوام لم يتجدد ماؤها، تقال حكايات: إنهم بنوا سدا عاليا عند بلاد النوبة، ستأتي الخيرات لاحقا؛ هذه تميمة جدتي : كف مبتور مخلوط بدم أضحية العيد، لكنه يأتي على أية حال، وراءه سر يغلفه بألف حكاية، الفقراء يدخلون الجنة مبكرا، هذه كلمات الشيخ في ليلة النصف من شعبان، حين يتوقف المكان بسكانه، تزدحم أبواب السماء بأدعية المبتهلين، أراه كل يوم يجوب الحارة، يجتاز الأزقة المسكوكة عمدا؛ تنتهي بباب سد، يحمل جوال الملح، وللعرق في الصيف عناء، تلفح وجهه النار، تدفعه الحاجة إلى أن ينادي على بضاعته الكاسدة؛ ترى من يشترى الضنى وقد امتلأت الحياة رهقا: يا مصلح يا ملح!
صغيرا تبعته مثل ظل أعواد الذرة كنت أنا ذلك المغطى بكساء أزرق مثل النيل يوم كان يتهادى يحب المحروسة، يقبل شفتيها
ينظر إلى نافذة نصف مشرعة، تخرج يد بيضاء حلوة مثل حليب بقرة جدي، منديل يهفو به ألوان زاهية، حواشيه مطرزة بالخرز الفضي اللامع.
ينادي مرة ومرة، مصلح يا ملح!
تأتي في وهج الظهيرة، تحمل وعاء من خزف، تتمايل في دلال، يناغم بصوته: ناعم يا ملح!
تتراقص في مشيتها.
تصدر أبواب الحارة صريرها، تخرج همهمات والهة، تحدق عيون عطشى، ينساب العرق قطرات حارقة، يأتي صوت عجوز وقد أخرجها الخوف، تضرب الأرض بعصاها، تدوي في التراب خطواتها، تتماسك، تبتلع ريقها، تلوذ هربا.
يترك ملحه، يجرى في الناحية، يسقط منه كيس نقوده، تتناثر قروشه، نجري وراءه، نلهو بكلماته: 
مصلح يا ملح
ناعم يا ملح!
يتورد خداها، مثل الورد الأحمر وقد غازله الندى!
ابنة عشرين عاما، حلوة، بل أجمل البنات، نظل نجري ونلعب، يأتى رمضان نلهو بكلماته، نسهر طوال الليل، فالحارة آمنة من العفاريت، لقد ربطها بسلسلة أكبر من قضيب القطار المصري؛ هكذا قال مولانا في الكتاب٠
أم رمضان وراء الكوم تزرع ثوم!
يا خالة يا أم رمضان قومي اتسحري،بالجرجير والعيش الطري.
نتجمع حين يهدنا التعب عند ضفة النهر، لن تخرج الجنية؛ إنه شهر مبارك، تصوم بالنهار، وتغازل القمر ليلا.
ننزل الماء، نمسك بالأسماك الصغيرة، نتذكر حكاية بائع الملح، نقلد حركاته، تضحك كما لو أن السماء أخرجت عصافير الجنة الخضراء تلهو .
من بعيد يأتي حاملا عصاه، إنه لا يعرف رمضان، يمسك بنا، تتابع ألفاظه مثل كوم السباخ سكنته الفئران، نجري في الحارة، لكننا لا نسكت، نظل نغني: مصلح يا ملح
تاعم يا ملح!
مضى أربعون شهرا، واحدا وراء آخر، بي للعب حنين؛ أرتدي الثوب الأزرق بلا سروال، أطلق ساقي تدب، ترى أين هي الآن؟!
أما تزال حمراء الخدين؟
يبدو أن الملح صار مجعدا مثل صوف الشاة، ضمر ثدياها، كانا مثل حبتي الرمان، تمزق منديلها ابتلعه البحر بملوحته. 
انطفأت بلادي.
أم رمضان ما عادت تأكل الخبز الطري، مثل أعواد الحطب تذروها الريح كل مكان.معشر النقاد والأدباء والقراء!
د.سيد شعبان

عن الكاتب

زمرة الأدب الملكية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

المتابعون

Translate

جميع الحقوق محفوظة

زمرة الأدب الملكية