زمرة الأدب الملكية

ما أكثر الأقلام إن فتشت محصيها،، فيها العلم وجلها غثاء من حطب،، وريشة الفهم إن جئت تطلبها،، فدواتها نحن عرين زمرة الأدب..

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

«فقدٌ باهظٌ» بقلم الكاتب: "حسان الحديثي"


 

فقدٌ باهظٌ


حسان الحديثي

لندن، المملكة المتحدة

الرابع والعشرون من كانون١ ديسمبر 2021


ها قد مرت خمسون عاماً وازدادت سبعاً على رحيل شاعر البصرة الخالد ورائد الشعر المبتكَر وحارس المعاني بدر شاكر السياب. 


في مثل هذا اليوم رحل شاعر المطر والنخل والغياب، مات الشاعر الذي سقى الليلَ للمدينة، وكحّل العيون بالنخيل.


في مثل هذه الساعات كان بدر شاكر السياب يسفُّ من ترابِه ويشربُ المطر. 


في مثل هذا الوقت مات الشاعر الذي لم يكفِه ايحاء الرمز فابتكر الرمز، ولم ترضه معاني المفردات فغير الدلالة، ولم يقنعه الايقاع فأطال وقصّر. 


مات الشاعر الذي جعلنا كلما ذكرنا بويب والمطر لفَّنا الحزن من كل جانب جاهلين السبب، الا لانهما اقترنا بالذاكرة اللطيفة التي غرسها السياب فينا وذهب.


مات الذي قيلت فيه آراء ورؤى لا تلمها الذاكرة ولا تجمعها الصفحات، فلم يبقَ أديبٌ ذو رأي الا وقال في السياب شيئاً؛ فمنهم من رثاه شعراً ومنهم من أبَّنَه نثراً، منهم من أجاد وأحسن، ومنهم من أصاب واخطأ، ومنهم من هو دون هذا وذاك، ولكني -والحق يقال- لم اقرأ أرقَّ وألطفَ وأصدق من الشاعر العراقي أجود مجبل حين قال مخاطباً السياب قائلا: 


وإلى شناشيلِ ابنةِ الچلبيِّ 

مِنْ خلفِ السنينِ الذاهباتِ تُلاحِظُ

وتقولُ للسيّابِ: لا ترحلْ بعيداً يا حبيبي

إنّ فقْدَكَ باهظُ


فلم يرحل بعيداً وبقي عالقاً في ما حولنا من معان ودلالات، فالسياب روح عراقية خالصة المعنى باقية الأثر، روح صادقة طابقت شاعريتُها الاحساس والشعور، ووافق مجازُها الحقيقة الواقع، ولاءم مقالُها الحياة والمقام، بمعنى ان السياب هو الواقع العراقي ولو لم يكن السياب عراقياً لأحدث شعره فرقاً بينه والواقع واختلف الفهم ثم تسبب ذلك بضعف التاثير، كان لا بد للسياب ان يكون عراقياً ليكتمل المشهد، وتتطابق الصورة. وأنه رغم عمره الدنيوي القصير ورغم عمره الشعري الأقصر الا انه لم يمت حتى أعاد للشعر رسالتَه الإنسانية، وبث فيه روح التجديد والابتكار، وأقام عمود الحداثة، رافعاً به رواق القصيدة العربية بعد ان أثقل سَداها تراثُ الكلاسيكية، وأوهن لُحمتَها إرثُ التقليد. 


الأدب هو أنسنة الكلام؛ حين نرفع لغةَ الحديثِ ليكون الكلام بيننا عالياً؛ شعرياً وشاعرياً، حين نجعل منه ترياقاً نعالج به أوجاع الناس، حين نخلق من النَص إحساساً يجعل كل قارئ يشعر انه كُتب له، حين نرسل من المعاني مراسيلَ مجازيةً للناس وكأنها نداءاتٌ آتيةٌ من دواخلهم وليس من القصيدة. وهذا كله موجود حاضر في شعر السياب لاجل ذلك كان السياب شاعراً بانسان وانساناً بشاعر. 


لكن هذا لم ينف عن السياب الفهم الخاطئ له من قرائه، فغالبهم يحسب انه إنسان بائس، والحقيقة ان السياب ليس بائساً، السياب شاعرٌ ادرك وطأة الحياة فعرَّفها في شعره؛ رمزاً ومباشَرةً، مجازاً وحقيقةً، خيالاً وواقعاً، وهناك فرق كبير بين البؤس والإدراك، وهذا الفهم له أثره في شعر غيره ممن تأثر به فهو -اي السياب- من اوحى لسعدي يوسف بابتكار مفهوم جديد لـ "رحمة الله" وجعل هذه الرحمة "أُمَّ مَن لا أمَّ له" في مرثيته العظيمة للسياب، ويعني بها ان السياب مات يتيماً بعيداً غريباً بلا أمٍ تُغمض عينه ساعة الفراق وتقطر الماء في حلقه عند الرحيل، كان ذلك في مدينة بلعباس في الجزائر في التاسع من كانون٢/يناير عام 1965. اي بعد خمسة عشر يوماً من رحيل السياب، يقول سعدي يوسف في مرثيته للسياب:


يا رحمة الله التي وسِعَتْ شقاءَهْ

يا أُمَّ مَن لا أُمَّ تُغْمِضُ جفنَهُ : كوني رداءَهْ

ولْتمنحي الجسدَ المعذّبَ راحةً ، والحلقَ قطرةْ

ولْتمسحي بالسِّدْرِ جبهتَهُ ، وبالأعشابِ صدرَهْ

هو طفلُكِ المصلوبُ فوقَ سريرِهِ عاماً فعاما

متقيِّحَ الطعناتِ مشلولاً مُضاما


وقد سألت سعدي عنها؛ لماذا وصفه في رحيله انه كان متقيح الطعنات؟ فقال: حين دخلت على بدر في مستشفى الموانيء في زيارته الاخيرة قُبيل سفره للجزائر وجلست عنده كان جسده قد اصيب بتقرحات الفراش وهي ندوب تظهر في مناطق من جسم المريض القريبة من العظم نتيجة الرقاد الطويل وهي حالة شائعة عند الأشخاص الملازمين للسرير لفترات طويلة وغير القادرين على الحركة، وعندما يطول الحال يتقرح الجلد وتظهر هذه الندوب فتصبح كأنها طعنات في جسد المريض، من هنا جاء وصف سعدي لحالة بدر. 


أما لميعة قتقول في ابياتها المهداة للسياب بعد مرور ٣٠ عاما على وفاته :


يوم أحببتكَ أغمضتُ عيوني 

لم تكن تعرفُ ديني 

فعرفنا و افترقنا دمعتين 

عاشقاً مُتَّ ولم تلمسْ حدود الأربعين 

وأنا واصلتُ أعواميَ أو ... واصلتُ تسديد ديوني


وهذه رؤية رائعة فالكل يسدد ديون الموت طال العمر او قصر، وهذا ما ادركه السياب جيداً، لذا لم يجد بأساً في الاثخان بذكر الموت والقبر والجثة والدم.


ومن الرؤى التي شخصها الأديب التونسي اللامع محمد لطفي اليوسفي قوله: "المعنى بدأ بالأفول منذ عصر السياب".


والحقيقة ان الفهم الخاطئ لاسلوب السياب ممن جاء بعده هو السبب بالأفول فالغالب الأغلب يظن ان الشعر الحديث محض تراكيب لغوية مرسلة بعشوائية وكيف ما اتفق، لعلها تكوّن صورة جميلة او مقبولة في ذاكرة المتلقي . 


ويعرّف اليوسفي السياب انه "شاعر الحب والثورة والموت"


اقول: لا يوجد شاعر وُصف انه "شاعر الموت" قبل السياب، فبالرغم من ان السياب أترع شعره بالمجاز، الا انه مجاز منطلق من الواقع، والموت احد أهم وأوضح فنارات هذا الواقع. وهذا ما يؤكده أدونيس بقوله "شعر السياب ليس اكثر من حياته او ابعد منها، انه يلبس حدودها فليس شعره حياة ثانية" ما اجمل هذا التعريف وما أروع هذا الفهم للسياب. 

كذلك جبرا إبراهيم جبرا حين قال "ولعل السياب كان أول من يرضى بأن تبدأ أسطورته بموته" وهذا شاهد ثان ودليل آخر بأن من كان حول السياب يفهمه ويدرك ما، يصنعه لذا كان الايمان بعبقريته امر واجب، وانا مؤمن بهذه الاقوال لانها تحاول الجمع بين الخيال والواقع فالاسطورة ضرب من الخيال والموت اصدق ما في الواقع. 


اما يوسف الخال، فيقول محمد الماغوط انه كلّفني بمرافقة السياب في بيروت طوال إقامته هناك، وأوصاني وهو يسلمني إياه قائلاً: لا تعذّبه، إنه شاعر كبير. هكذا رأوه "شاعر كبير"


نشات بين الماغوط والسياب صداقةٌ مميزة فهم خلالها فكره عن كثب وتعرّف على شخصيته عن قرب لاجل ذلك حين مات السياب كتب الماغوط مرثية طويلة مخاطباً إياه:


تشبث بموتك أيها المغفل 

دافع عنه بالحجارة والأسنان والمخالب

فما الذي تريد أن تراه؟

كتبك تباع على الأرصفة

وعكازك أصبح بيد الوطن.


هذا هو فهم الاخرين للسياب، والسوال ما هو فهم السياب للشعر؟ انه يتلخص بجملة واحدة ذكرها عبد الوهاب الشيخلي الصحفي، يقول: حينما سألت السياب عن أنواع الشعر، قال: هناك شعر تعجب به لأول وهلة ويزداد إعجابك به على مر الزمن، وهذا هو أرفع أنواع الشعر وهو نادر الوجود. 

وكأني بالسياب يصف شعره، فقصائد السياب تحوي هذه الخاصية وتحمل هذا الطابع، تقرؤه فيُميلك اليه، ثم تقرؤه فتُعجب به ثم تقرؤه فيزداد إعجابك بازدياد القراءة. ذلك ان السياب يترك في خبايا القصيدة بواكر من المعاني تُفتض تباعاً ويملأ طياتها بالمدهش من الدلالات يكتشف لاحقاً ويرسل بها الفكرة تلو الفكرة والصورة إثر الصورة فما تنفك من دهشة حتى تنتهي لدهشة ولا تنقضي بك متعة حتى تسلمك لمتعة، وذروة ادهاشه وغاية امتاعه حين يُسرف في الغوص في اعماق الحزن حتى لتشعر انه قد أوقعك بشرَكٍ آمن للنفس لا تريد التحرر من حباله، وكبَّلك بقيد لطيف على الروح لا تود الافلات منه. 


فشكرا للسياب الذي اجرى للشعر عملية قلب مفتوح ليبدل ما عتق من شرايينه وما ترهل من صماماته ليجدد فيه الحياة. 

شكرا للسياب الذي جعلنا اذا قرأنا القصيدة عشنا فيها فإذا انتهينا منها عاشت فينا رغم وطأتها على ارواحنا. 


شكراً للسياب الذي رحل مبكراً تاركاً حياته في القصيدة.

عن الكاتب

زمرة الأدب الملكية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

المتابعون

Translate

جميع الحقوق محفوظة

زمرة الأدب الملكية