روحانية الحروف..دالة ومدلول
« دراسة نقدية »
بقلم / محمد البنا
لنص « نهار وليل »
للأديبة الجزائرية / فايزة عبد السعيد
..............
النص
.......
يقول:
أنت غيمة بيضاء..
يبرق حبه بعيوني
وبقلبي يرعد..
حينما أنهمر لأسقيه..
يفتح مظلته!
يقول:
كالشمس أنت
تشرق الأحلام
خيوطا متلألئة
تحاول عناقه
يسدل ستارة هدبه مبررا..
أنه يخشى احتراق الأمنية!
يقول:
تشبهين القمر
تشعل روحي شمعة
بقبو عمقها المظلم...
وحينما تبزغ حكايا العهد
يخون الليل معللا
أنه يمقت السهر!
يقول ويقول، ثم يصمت
وهو يقول الكثير الكثير
من....
اللا شيء!
•••••
فايزة عبد السعيد
١٠ مارس ٢٠٢٢
.............
« دراسة نقدية »
عندما يبلغ المبدع قمة هرمه الإبداعي، ويتربع على عرش مملكته، متباهيًا بأوسمة اكتمال نضجه الأدبي، ماذا ننتظر منه ؟..ننتظر منه إبداعًا متفردا، نسيج وحده، لا يدانيه من قريب أو بعيد إبداعٌ له سبقه.
هذا ما كنا ننتظره ونأتمله منه، وها هى الأستاذة المبدعة لم يخيب ظننا فيها، فأبدعت ما نحن بصدده الآن..قصيدة نثرية أقول، أم خاطرة..أم الأثنتين معا؟..
قال الشاعر يزيد بن الصمة والمشهور ب يزيد بن الطثرية ( نسبة إلى أمه ) وهو ينتمي إلى بني قشير...
أحبك أطراف النهار بشاشةً
وبالليل يدعوني الهوى فأجيب
لئن أصبحت ريح المودة بيننا
شمالًا لقد ما كنت وهى جنوب
فترد عليه حبيبته ( وحشية )..
أحبك حب اليأس إن نفع الحيا
وإن لم يكن لي من هواك طبيب
ما أشبه اليوم بالبارحة، فها هى مبدعتنا تعيد على مسامعنا ما يقارب تلك القصة الأسطورية في صدر الأسلام( حب يزيد ووحشية )، ولكن بإحساس عصري ولغة عصرية ومفردات منتقاة بعناية شديدة، فكان لما أبدعته السبق والسمو، إذ مزجته بتقنية متبعة في الشعر الصيني القديم، درج عليها شعراء الصين ومنهم ( وانج وي) إذ يقول..
هناك غيمة خفيفة
ورذاذ حول السرادق في الساحة المظلمة
متعبًا..أفتح البوابة
ويقول ( لي شانجين )..
في الليل
المطر في تلال ( با)
يطفح البركات الخريفية
متى يمكننا أن نشذب معا الشمعة
ونتحدث سويًا عن المطر.
بينما أديبتنا تغزل حروفها على لسان العاشق في رائعتها، إذ يقول :
أنت غيمة بيضاء
ويقول:
كالشمس أنت
ويقول :
تشبهين القمر
غيمة/ شمس / قمر..ثلاثية سماوية جمعت البرد، والحر، والنسيم، وثلاثية عشقية جمعت الاشتهاء مجازًا في نسق غيمة، والشبق مجازًا في عنفوان شمس، والارتواء مجازًا في ليلة قمرية..فها هى المبدعة هيأت المقدمات، ومن ثم تلتها بتهيئة الخدر لعاصفة عشق، إذ..
يبرق حبه في عيوني، وبقلبي يرعد فانهمر مطرا لأسقيه، وها هى واصلت..تشرق الأحلام سواعد تشتهي عناقا، وتشعل الروح شمعة في عتمة حرمانها وتوقها إلى انهمار ضوء يسكن ظلالها العطشى...هيأت وتهيأت وأغمضت عينيها متلهفة، فإذ بمن هيأت له الأسباب يفاجئها بفتح مظلة اتقاءً لبللها، ويسدل هدبه متعاميًا عن رغبتها، ويتخلف عن موعد الهوى عامدًا متعمدا، ولم ؟ لم بعد أن دعاها نبع إشباع يهاب البلل؟
لم بعد أن أشعل النيران يخاف الاحتراق؟!
ولم بعد أن واعدها ليلاً يخلف وعده؟.. فطبيعة الأشياء أنّ المقدمات تتلوها نتائج، نتائج تتسق ومسبباتها لا أن تتعارض معها!!..ومن يشعل النيران يطفئها...أي قسوة تلك!!..أن نعيش الحلم ونقاوم أن نعيشه واقعا، أي قسوةٍ تلك!!..أن نتمنى ونتمنى ونتمنى ونصمت ونصمت ونصمت، مخافة أن تتحقق أمانينا، بل أي حماقة تلك؟..بل أي حقارة نتسم بها إن نحن الرجال فعلنا!!
نص حفل بالصور البلاغية واحتفى بها فاحتفت به ورفعته تاجًا طوق رؤوسها..
يبرق حبه بعيوني..كناية عن الرغبة والاشتهاء
وبقلبي يرعد..كناية عن شدة الخفق واللهفة
تشرق الأحلام خيوطًا متلألئة...كناية عن التهيؤ للقاء...وهكذا تتوالى الصور من جميل إلى أجمل، يسدل ستارة هدبه/ يخون الليل/ يفتح مظلته/ تبزغ حكايا العهد.
ولنقف قليلا أمام التقنية البنيوية للنص او بناءه الهندسي فنرى ...الطبيعة في الشمس والغيمة والقمر يقابلها المادية في المظلة والستارة والشمعة، ونرى الاقدام في يبرق ويرعد وتشرق وتشعل وتبزغ، والنكوص في يفتح ويسدل ويخشى ويخون، ومعظمها أفعال مضارعة حركية ساهمت في إحياء النص بديناميكيتها، وساهمت ببراعة اتساق حروفها ( تشعل، تشرق/ يبرق، يبزغ/ يخشى، يخون/ يسدل، يفتح) في شاعرية النص مثلما ساهمت صوره في عزف موسيقاه الداخلية.
ومن ثم ننتقل لنقطة أخيرة قد يراها البعض عادية ويمر عليها مرور الكرام، إلا أن دلالتها في غاية الأهمية، وعن نفسي ارى فيها ذروة إبداع النص، ألا وهى..يقول، ويصمت النص عن ( أقول أو أرد) كاستجابة طبيعية ومفترضة ( قال وأقول)، إلا أن المبدعة الرائعة استغنت تماما عن ذلك وأبدلتها بالفعل المادي كتلبية مباشرة لتفاعلها مع أقواله.
••••••••
محمد البنا ١١ مارس ٢٠٢٢