زمرة الأدب الملكية

ما أكثر الأقلام إن فتشت محصيها،، فيها العلم وجلها غثاء من حطب،، وريشة الفهم إن جئت تطلبها،، فدواتها نحن عرين زمرة الأدب..

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

« قراءة تأويلية»_ بقلم: الأديب / محمد البنا _ لنص « الثعلب والدجاجة » _ الأديبة والناقدة السورية / كنانة عيسى


 



انقلب السحر على الساحر


« قراءة تأويلية» بقلم


الأديب / محمد البنا


لنص « الثعلب والدجاجة » 


للمتألقة دائما قصًا ونقدا


الأديبة السورية / كنانة عيسى


........................


النص 


« الدَْجاجة والثعلب » 



حلَّ المساء سريعًا على الغابة المتكوّمة على نفسها في أعلى التلة، أنفاسها الباردة تثير الشّعور 

بالنّعاس والخدر. 

هجعت كل المخلوقات الحية لسكونها إلاّ الثعلب. 

فقد كان مصغيا بمللٍ وفتورٍ لأصوات اللّيل، 

انتصبت أذناه لصوت متكسّرٍ، كانَ وطواطًا تائهًا, حطَّ رحاله على مقربةِ منه متسائلًا 


-مالذي تفعله مستيقظًا حتّى هذه الساعة المتأخرة جدًا من الليل؟ هل تبحثُ عن وجبةٍ ما؟

تململ في الشّجيرة، التي نالته أشواكها بعينين ماكرتين


-لعلني سأتناولك أنت كوجبة، شممت رائحتك المقرفة منذ برهة، لقد مللت طعم السّناجب 

والقنافذِ والأفاعي .. أبحثُ عن طعمٍ جديدٍ، عن مغامرةٍ جديدة.ٍ

حطّ الوطواط على الشجيرة القريبة بحذرٍ وهمس َ


-لك وحدكَ  أم لعائلتكَ؟

انتفض الثّعلب بإثارةٍ، ارتجف جسده، وانتصبت أذناه، وسأله بلهفةٍ :


-مدّني بالتفاصيل.


-مزرعة مهجورة بدأت تمتلئ بأولئك الحمقى من الحيوانات الدّاجنة، أعتقد أنّك ستحبّ بعض 

اللحوم الطّازجة.


-بالطّبع ...هل تمزح ؟ لقد مللت كلّ شيءٍ حولي هنا، أريد بعض الإثارة الهجينة حتى أخرج

من جلدي.

خفق الوطواط بجناحيه  وقال :


-إذا أردت قدتك وعائلتك إلى ذلك المكان ليلًا، حين ينام البشر، فأنا لا أحبّهم.


نظر الثعلب للوطواط المرتجفِ بسطوةٍ


-لقد حزمت أمري، سنذهب الآن أنا وأنت فقط، بالطّبع أنت لا ترغب في مقابلٍ على ما أتوقع،

سأعدُك بألا أتعرَّض إليك.

حطَّ الوطواط قريبًا من تلةٍ مكشوفة، وأشار لحظيرةٍ منفردةٍ مضاءةٍ بشكل خافتٍ قائلًا 


-سأتركك الآن هنا ..تذكَّر وعدك لي جيدًا..


نظر الثعلب بحذرٍ حوله، وركضَ باتجاه المزرعة مثارًا بشدة، لا يوجد بشرٌ هنا، رائحة واحدة كانت تتحكَّم بأثيره، تفحَّص المكان جيدًا، ووجدَ لوحًا خشبيًا هشًا، أتاحَ له فرصة َالتلصّصِ على حصانين وبعض الأبقار ودجاجةً واحدة.


فكَّر عميقًا :

-هذا ما أريده ، دجاجة واحدة اصطَادها اليوم، تكفيني  متعةَ عامٍ من لذّة القنْص، ولكنّها  صغيرةٌ و  هزيلة جدًا ! سأتركها حتى تسمَن قليلًا، وتكبر أكثر..لمَ الطمع؟


عاد الثعلب بعد يومين، وتلصَّص على الدجاجة النهمة،  لم يكن يرغب بإفساد متعةِ مطاردتها، 

وقضْم عنقها، إنَّ ذوبان لحمها الوردي في حلقه، هو ما يثيرُ خياله .

أمسك نفسه عن مطارده حتميةٍ، وقال لنفسه وهو يراقبها تنقر الحبَّ بنهمٍ


- ستسمن في فترةٍ قريبة ..هكذا يصبح الانتظار أشهى، لا جدوى من مراقبة فرائسَ مهزومةٍ لا حول لها ولا قوة؛ طالما أنَّها ستؤكل. في النهاية

عاد بعد فترة قصيرة، حفرةٌ كبيرة تتّسع له الآن تحت اللّوح الخشبي؛ جائع ٌومنهكٌ، يجترِّ طعم 

الحشائش والثّمار الفاسدة، ولا يستسيغ لحومَ الوطاويط المرَّة، لم يكن ليساعده الآن هذا الانتظار.

بدت له الدجاجة منتفخة وكبيرة وشهية، سال لعابه، لم يعد قادرًا على ضبط نفسه.

هو أكثر نحولًا وهزالًا من قبل، رغبة سفك الدماء بدأت تلهب جوفه، لن يصبر بعد الآن، لقد أدركته تلك الحقيقةُ. .

الدجاجة  ازدادت وزنًا وامتلأت شحمًا، وما زالت تبتلع ما في طريقها من حبوب وحشرات وخبز رطبٍ .

تخلَّى عن حذره، لا يشم رائحة خطرٍ، الأحصنة في صمتٍ، والأبقار في سكونٍ، وحدها الدجاجة السمينة تأكلُ دون توقفٍ، انزلق بسلاسة تحتَ اللَّوح الخشبي، فؤاده يخفق ملتهبًا، رائحةُ الرطوبة في الحظيرة النتنة تثيرُ شهيته أكثر، هرول باتجاهها، نظرت إليه باستغراب!

..كائن ناحل بذيل منفوش وعينين خبيثتين وأنيابٍ قبيحة، غدا ضعيفًا ومنكمشًا، وهي مغرية ولذيذة ولا تقاوم.


-يبدو مسليًا


هكذا فكرت الدّجاجة  ببراءةٍ .

راعهُ كبر حجمها وضخامتها، واستساغَت ألوانه الجميلة الكامدة.

دامت لحظة الانبهار هذه لدقيقةٍ طويلة.

وما أن اقترب الثّعلب بأقصى جوعه فاغرًا فاهه، لأجل وجبة شهية، حتى مضت الدجاجة

باتجاهه متحركة ببطءٍ....

كشّر عن أنيابه…..فابتلعته.


•••••••


كنانة عيسى ٢٠٢١


…………………



«  القراءة » 



بعيدًا عن ظاهر النص وبساطة عرضه المتعمد بجدارة، لتصل رسالته إلى الجميع، ناحيًا في سرده التماهي مع كتاب كلية ودمنة / لابن المقفع، بعيدا عن ذلك - وقد تحقق- سأدخل مباشرة إلى مفاتيح النص وما أكثرها من مفاتيح!.. عن نفسي لم اتعرض من قبل لنص قصير قصر هذا النص الذي بين يدينا، يحمل سطح بحره السردي كل هذه الأمواج..أمواج ( مفاتيح ) لا تمضي إحداها حتى تلاحقها الأخرى في تتابع دقيق وتنسيق مذهل ينم عن مبدع يكتب بوعي كامل يقظ متقد منظم، وي..كأني أمام محرك دمى يتحكم في حركاتهم بخيوط معلقة بأصابع يديه، فتأتي الحركات متوافقة تمام التوافق مع التناوب الديناميكي الدقيق لحركة الأصابع من رفع وخفض وميل يمنة ويسرة، وانحناءً واستقامة...هذا النص يشبه تماما في تقنيته ما سبق وأشرت إليه..انظروا معي كيف تم تهيئة المسرح بكلمات ديكورية تعبيرية شديدة الألق (حل المساء / الغابة المنكوبة / التلة / انفاس باردة / نعاس وخدرثم نتوسط الكادر في اشارات دقيقة سريعة خاطفة ( هجعت المخلوقات / الثعلب / الوطواط) ليبدأ محرك الدمى الفصل الأول لعرائسه ( الثعلب يصغى / صوت متكسر / وطواط تائه يحط رحاله) ومن ثم يبدأ الحوار الثنائي بين ملول جائع، وماكر مخادع..بإرشاد ووعيد، ويمضي السارد في حركته المتوازنة بين سرعة وابطاء وفق مقتضيات الحدث إلى نهاية الأقصوصة.

والآن وبعد أن أسهبنا في إلقاء قبس من ضوء على تقنية النص السردية، لنعد إلى مفاتيحه المتعددة، وأول ما يستوقفنا ( هجعت المخلوقات الحية ل " سكونها")..السكون هدأة فطرية لليل- ظاهر النص- ولكنه هنا يعاكس تماما معناه الشائع ليؤول إلى خناعة وخضوع واستسلام- باطن النص-، وثاني المفاتيح ( تائه ) والتائه من يسير على غير هدي اتفاقا، ولكن الصورة المخفية تشي بأنه الباحث المتلصص المنوط تحسس احوال الرعية " الغابة المتكومة على نفسها" تماما كما العسس في سالف الزمن، والامن الداخلي المتنكر في زمننا هذا الذي نعيشه واقعا، وتتالى الموجات في تناغم وتناسق من (أولئك الحمقى من الحيوانات الداجنة / إشارة صريحة إلى الطبقة الدنيا من البشر) مرورا ب (ستسمن في فترة قريبة وسأنتظر/ إشارة سيميائية ناقصة..ضلعاها التغذية لأجل الذبح، والانتظار حتى تحقق المراد، ويظل ضلعها الثالث الناقص ..الالتهام كمكمل لأضلاع المثلث) و..و..و..انتهاءً بانقلاب السحر على الساحر، ومن حفر حفرة لغيره ربما يقع فيها، في اشارة تنويرية وتشجيعية وصرخة مدوية (كشر عن أنيابه..فابتلعته ) مفادها ( الشعوب قد تنعس وتخنع وتستسلم لظلم بين لكنها أبدا لن تموت) قد تتظاهر بكل ذلك ( لا تأبه/ تاكل في طريقها الحبوب، والخبز الرطب ) لكنها عند لحظة الفصل فيضان يكتسح ما أمامه، ولا يبقي ولا يذر.

ولا يسعنا ها هنا أن نغفل الترميز 

الثعلب...الخبث والمكر والانتهازية

الدجاجة...البراءة والطيبة والمورد الطبيعي للخير

الوطواط...التلصص والتصنت ومص الدماء

ومن الأقوال المأثورة التي حفل بها ..( لا تستهن بخصمك) ، ( التخلي عن الحذر مفسدة) ، ( الغواية شر محدق بك قبل غيرك)..أخيرا نجح القاص في مخاطبة الطفل ومخاطبة البالغ ومخاطبة العاقل والمتعقل في آن واحد وبتسديدة متقنة - رغم بساطتها- سكنت الشباك.



••••••••••••



محمد البنا ٢١ مارس ٢٠٢٢










عن الكاتب

زمرة الأدب الملكية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

المتابعون

Translate

جميع الحقوق محفوظة

زمرة الأدب الملكية