زمرة الأدب الملكية

ما أكثر الأقلام إن فتشت محصيها،، فيها العلم وجلها غثاء من حطب،، وريشة الفهم إن جئت تطلبها،، فدواتها نحن عرين زمرة الأدب..

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

« قراءة »_ بقلم: الأديب المصري / محمد البنا _ لنص « قصة أمي »_ للقاصة السورية / خلود برهان


 



بكارة الصور البلاغية..إبداع


« قراءة » بقلم


الأديب المصري / محمد البنا


لنص  «  قصة أمي » 


للقاصة السورية / خلود برهان



........................


النص


« قصة أمي » 



كانت أمي رسامة بارعة مولعة بالزخرفة .

تطرز وقتها بحبنا، تخطف تغاريد العصافير من الفضاء و شبابيك الجيران و أسطح البيوت الحجرية لتنسج منها ثوبا يليق بالصباح.

تمسك المكنسة صباحا لترسم على الأرض لوحةً خالية من الغبار، و تتناول الملعقة فترسم في قِدر الحساء دوائر لا نهاية لها، تستعمل السكين لتزخرف مكعبات  البصل و البطاطا وسر خلطتها ابتسامة ،

عندما كان أبي يغادر للعمل؛ كانت أمي تتحول إلى ساحرة تغطّ أصابعها بالماء البارد فتحمر، وكلما زاد بردها و احمرارها ؛ زادت قدرة أصابعها على السحر، فتغمر قمصان أبي الملطخة بالطين ؛بالماء و الصابون ، ثم تخرجها فتختفي بقع الطين ، لم أكن أعرف أن الساحرات يتألمن عند قيامهن بالسحر والشعوذة إلا عندما رأيت أمي تعصر وجهها و تكزّ على أسنانها،و تخرج ملابسنا من الماء و أصابعها الباردة متورمة،

وعندما تنتهي تصنع من الحبل في فسحة الدار معرضا فنيا للوحاتها ،فتجمع شتات الأسرة الخارجة من البيت على ذاك الحبل ، وتعرض جواربنا المهترئة و القمصان والفساتين الصغيرة الملونة. 

كانت امي تفرح بالربيع فتأخذنا في نزهات طويلة ثم نعود فترسم لنا على دفاترنا أزهارا و عصافير بيد مرتجفة.

ذات خريف طلب الزمن من أمي أن تزخرفه؛ فزينت له وجهه بملامحها ورسمت له خطوطا متعبة تحت عينيه، وعندما غادر تسللت إلى غرفتها و أغلقت الباب، أردنا أن نعرف ما بها و هرعنا إلى النافذة لنسترق النظر إليها،

كانت جالسة على السرير ممسكة بالمقص تقص أطراف الخريف و تحشوها بالمخدة، ثم صنعت في السماء ثقبا عميقا و نادتنا لتخبرنا بسرها .

يومها علمتنا كيف نصنع من الجوع خبزا لذيذا، ومن الفقر حبلا طويلا نشد به أرواحنا كي نتحمل وقالت لنا حافظوا على هذه الحبال إنها تسمى الصبر و بهذه الحبال فقط تجتازون رحلة الحياة . 

تساقطت دموع ابي غزيرة كالمطر فوضع فوق رؤوسنا منديل أمي كي لا نتبلل ، وأخبرنا كم كان مبهورا بجمال أمي و لوحاتها .

قالت أمي هذا الجيب الذي قمت بخياطته في  صدر السماء سأختبئ به لابتعد عنكم في مرضي ، كلما اشتقتم لي انتظروا الخريف حتى يعود وانظروا إلى السماء فأعود إليكم ،

ثم صلت أمي صلواتها ووزعت أدعيتها علينا بالتساوي وغطت في رحيل عميق . 

في اليوم التالي جاء أبي بأمي تبتسم في إطار خشبي ، وإلى اليوم لازالت أمي شابة بينما نحن هرمنا ....


خلود برهان.سورية



.............



« القراءة » 



ما هذا يا سادة !!..مرعبةٌ تلك المخيلة التي أبدعت تلك الصور البلاغية الناطقة، وعقدتها لألئ في عقد القص القصير، وأيقونة سرمدية تليق بعنق كل أم منذ أمنا حواء إلى آخر أم قبيل النهاية المقدرة غيبًا في علم الإله الخالق القدير.

والله إني لعاجز أحاول أن أتلمس أين أضع قلمي بدايةَ، أنا في بحر لا شواطئ له ولا قاع، والعجب أنني سعيد جدًا بغرقي، ولا أسعى لسطح، أنه الموت عشقًا على صدر أم، عن أي موت أتحدث؟!!.. أنها الحياة نفسها!..أنها مائي وزادي ووجدي وفرحتي ودمعي!..أنها..أنها أمي...هذا لسان حال خلود برهان لحظة مخاض هذا الإذهال المذهل..عجوز هرمت تتنفس عشق طفلة لأمٍ شابة ( وإلى اليوم لا زالت أمي شابة، بينما نحن هرمنا)...جملة قاطعة فاصلة جامعة مانعة، ورغم مناعتها بإحكام صياغتها، إلا أنه تنطبق عليها المقولة الأدبية الشائعة

 " كلما ضاقت العبارة اتسع المعنى"

الأم ماتت- شابةُ كانت أو عجوز- فأنها اليوم في الجنة، شابة ثلاثينة ..الجنة تحت قدميها، بينما نحن الأبناء لا زلنا أحياء نطأ الأرض التراب بأقدامنا، نشيخ ونهرم، والأم أيضا مهما كبر أبناؤها وتقدم بها وبهم العمر، فهم صغارًا في عيونها، وفي قلبها رقة ورعاية لطفولتهم، وفي خبرتها نصيحة وخوف وقلق لا يزول، ونحن الابناء مهما كبرنا نرى أنفسنا أطفالا في حضرة أمهاتنا، و..و..و.

وقصة أمي..الرسامة التي تطرز وقتها بحبنا، وقصة أمي..النساجة التي تخيط لنا من تغريد العصافير ثوبا، وقصة أمي..الساحرة ..التي تُسحر حبل الغسيل معرضًا فنيًا للوحاتها، وقصة أمي..وقصة أمي..وقصة أمي.

أي مخيلة تلك التي أبدعت صورًا، فسحرت أعيننا ببريق صورها، وسلبت عقولنا ببديع تكوينها!

مخيلة ساحرة.. تحول شبابيك الجيران واسطح البيوت الحجرية..إلى ثوب.

مخيلة ساحرة.. تضع على الحبل أرواحنا فيتراقص فرحا ونهتز جزلى، تتعانق نظراتنا الفرحة بجمع شتاتنا .

مخيلة ساحرة..تغط يديها في الماء البارد، فتغسل بحنينها وحنانها أدران علقت بصدورنا.

مخيلة ساحرة..تزين الزمن بتجاعيد وجهها، وتقص خريفه بمرضها، وتصنع ثقبا في كوة السماء لتنفذ منه راضية مرضية صاعدة للملكوت الأعلى، في هدوء وثقة ورضا ..نعم..نعم..أليست أم؟!

وتواصل الساحرة مزاولة سحرها ..تضحك ونحن نبكي فرحًا، تضحك ونحن نبكي فراقا.. تضحك في صعودها الناعم الممهد درجه بسندسٍ واستبرق، ونحن ننتظر بلهفة لحاقًا بها.

أذهلتني صورك يا خلود كما سحرتني مخيلتك الخصبة التي حولت حياتنا إلى حديقة ورافة الأزهار والثمار والظلال..حياتنا..حديقتنا...أ م م ي.



•••••••


محمد البنا ٢٤ مارس ٢٠٢٢

















عن الكاتب

زمرة الأدب الملكية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

المتابعون

Translate

جميع الحقوق محفوظة

زمرة الأدب الملكية