تبئير المأساة مع اتساع الكادر المشهدي
متلازمة سردية..
بقلم الأديب / محمد البنا
لنص « قوت وطن »
للأديبة السورية أميرة البيان / منى عز الدين
.....................
النص
« قوتُ وطن »
:::::::::::::::::
قد تحتاج عكازاً في عزِّ الشباب وإن استقام الظهر؛ فلربما بعض الأحداث تحني منك القلب، فلا تحفظ الجوارح الود لعهد الفتوة والصبا.
كانت كفينوس في ربيعها الخامس والعشرين، لها جسد مشدود وملامح يقظة، لكن لمعة عينيها النجمية التي كانت تنافس الشموع هبت عليها رياح الزمن فأطفأتها، لتلمح في ثنايا نظرتها سحائب دخان، وغيوماً رمادية استعصى عليها الهطول؛
_لأن بعض الطوارئ أصعب من البكاء يا أمي
خشيت عليها احتباس الدموع ودفنها للقهر، ربّتت على كتفها، ووضعت يدها على قلبها ترقيها ببعض الآيات القرآنية، بينما بدأ المعزون يخلون المنزل وهم يرددون عبارات التمجيد للشهداء ومقامهم في الجنة وفي قلوب الناس .
وجدت بعض التعزية في تلك العبارات، فاحتضنت ابنها ذا الأعوام الخمسة وصورة زوجها متمتمةً في أذنه؛
_أنت ابن البطل وعليك أن تفخر، سنلقى صعوبات كثيرة من الآن ياوحيدي، لكننا خبأنا لها حسن ظننا بالله ،وسنكون عند حسن ظن أبيك فينا فهو يراقبنا من مكانه هناك في الجنة وينتظرنا .
نظر إليها بعينين دامعتين لمحت فيهما ماأرادت بثه من عزم وتصميم .
هي تعلم الآن أنها أمام ثلاثة خيارات؛ إما أن تقتات الحزن بسواده حتى تموت، أو تتزوج من عابر سبيل تحت ظل رهان حظّ ابنها معه ، أو تصلب عودها في بلد انحنت فيه هامات الرجال من الحرب
_ هو الخيار الثالث
قالتها بصوت مسموع كي تحفظها كل جوارحها، وتعمل لها .
قضت فترة العدة وهي تساعد أمها في الخياطة، فقد كانت وحيدة أهلها وليس لها بعد الله من معين.
يوماً بعد يوم ذوت الصحة في عود أمها ولم تعد تقوى على الجلوس أمام آلة الخياطة ولا إيصال الطلبات إلى المشاغل في المدينة، مما اضطرها للقيام بتلك الرحلات الخطرة.
لم تكن خطرة بسبب القذائف والغارات الجوية وحدها، بل على الأرض غارات أكثر عنفاً، إذ كان عليها أن تقطع أربعة عشر حاجزاً في طريقها إلى المدينة رغم أنها لاتبعد عن بلدتها سوى خمسين كيلو متراً كانت تقضيها صعوداُ ونزولاً من الحافلة أمام كل حاجز، يقابلها صعود ونزول في دقات قلبها كلما أخذوا البطاقات إلى أن تُعاد إليها دون ذكر اسمها بين المطلوبات.
مسلسل رعب تحضره كل يوم عندما يحتجزون بطاقة أحد الشبان ليهرب من وجهه اللون ومن أقدامه تنبيهات العضلات، فيسحبونه بأيديهم ويتناوبون عليه ركلاً حتى يتوارى عن أنظارها إيذاناً ببدء خروجه من حياة الآدميين إلى حياة أشباح في أقبية الاعتقال، حياة حمدت الله كل مرة على اسشتهاد زوجها قبل أن يحياها.
على أحد هذه الحواجز كان يجلس ببزته العسكرية، عضلاته ملفوفة، عريض المنكبين، وجسده قد صقلته كثرة التمرين، لم يكن وجهه بأقل قوة من جسده، تلمح القسوة في جميع قسماته؛ من عينين سوداوين جاحظتين، وأنف أفطس عريض، إلى شاربين مفتولين يغطيان جزءاً من شفته العليا الغليظة التي كانت تطبق بإحكام على غليون ينفث دخاناً رمادياً كنواياه العفنة.
_اتركي هذه البزات العسكرية فهي تلائمنا
_لكنها طلبية للمشغل الذي أعمل فيه
رمقها بعينه الفاحصة وهو يفتل شاربيه؛
_ إذن لتأخذي مقاسي وخيطي لي مثلها
وأشار إلى خيمته مع غمزة وقحة، فهمت منها المراد فارتعدت كل فرائصها، عدا قلبها الذي استمسك بالدعاء .
استغلت قدوم ضابط أعلى منه رتبة ووضعت كيس البزات على الأرض قائلةً؛
- خذوها إنها لكم قصدَ إلهائهم لتعود أدراجها بسلام .
عادت إلى بيتها منهكة تجر أذيال الهموم، كيف ستسدّد ثمن القماش للمشغل، ثم إنها لن تجرؤ بعد اليوم على المرور من ذلك الحاجز .
حضنت ابنها وبكت بمرارة تخالطها بعض المواساة لنجاتها مما كان أصعب، لكن شبح المصاريف، وتسديد ثمن القماش أرهق تفكيرها مع بدء نفاد مؤونة الطعام.
_ هوني عليك يابنتي لا أحد يموت من الجوع
_حفظك الله يا أمي دائماً تربطين على قلبي بكلماتك التي تفوح باليقين.....
قطع كلامها جلبة وقرع أحذية جنود تجوب الحي،تتلوها عبارات استرحام وصراخ أطفال ونساء؛
_ إلى أين تأخذوننا ؟
_ سنجمعكم في معسكر واحد ، أنتم خونة لا ينبغي عليكم العيش بين الناس الشرفاء
_لكننا لم نفعل شيئاً
_ أين أزواجكن إذن ؟
استرقت ندى النظر من زاوية النافذة لترى سيارتين كبيرتين تحملان عائلات من حيها والأحياء المجاورة، لم ترَ سوى نساء وأطفال.
تعرفت على صاحبة الصوت التي كانت تحادث الجندي عندما ضربها بعقب بندقيته لتصمت.
فجأة تكسّر الباب بركلة من ذلك الجندي، لتجد نفسها أمامه القذر الذي كان على ذلك الحاجز .
انخلع قلبها من مكانه وهو يقهقه بوقاحة قائلاً؛
_ هيا لتكملي خياطتك في ذلك المعسكر، اطمئني لن تحتاجي من القماش الكثير ، لأنكم ستذوبون من الجوع، أو ربما من القصف.
دفعها بعجل هي وأمها والصغير إلى الشاحنة دون أن يسمح لهم باصطحاب ولو كسرة خبز .
وجمت الوجوه وحلَّ صمت رهيب، فقد تناهى إلى سمعهم أنه قد ضُرب طوق حصار على ذلك المكان الذي سيصبح مأواهم، ولن يدخل إليهم أي نوع من أنواع الغذاء حتى يستسلم الثوار في البلدة.
هاهم الآن في أرض جديدة لا تمت للحياة بصلة سوى صراخ أطفال من لهيب الجوع وأنات الكبار .
لم تكن هذه البلدة التي جمعوهم فيها خالية من الحياة من قبل، لكن الجيش أخرج منها سكانها، ليجمع فيها كل العائلات التي تمتُّ بصلةِ قرابةٍ للثوار.
بعض الانعطافات القاسية في الحياة تكسر فيك حاجز الخوف بعد أن وصلت إلى منتهاه، تسلبك الكثير لكنها تكسبك صلابة عود ، وقوة روحية تصنع فيك جرأة تحدٍّ حقيقي للحزن الذي يسحبك للفناء .
بهذه القوة قرروا التمسك بالحياة، انتشروا يبحثون عن مأوىً فقد بدأ القصف من جديد، تركت ندى ابنها مع أمها في ركن بين جدارين وراحت تعالج باباً متهالكاً لمكتب قديم حتى فتحته، حجرة متهالكة محتضنة العنكبوت بين أركانها، مكتب خشبي عفا عليه الزمن، سرير عتيق منفرد في ركن الحجرة عليه بطانية قديمة مهترئة،حاولت قدر المستطاع تخفيف مافيه من تراكمات غبار وبعض المهملات.
قضوا ليلتهم الأولى متناوبين على بطانية رثة مادفعت عن عظامهم نخر البرد .
في الصباح اجتمعوا من جديد ليقرروا كيف يتدبرون طعامهم، جمعوا ما وجدوه في البيوت من بقايا طحين مسوس، عجنوه ووزعوا الخبز على الجميع بالتساوي، شرط أن يقتصد كلٌّ في حصته، فلا يستهلك إلا كسرة خبز بحجم الكف كل يوم .
_لا أظنه سيكفينا لأكثر من عشرة أيام
قالتها ندى بحزن لابنة خالها وسط حلقةمن النسوة
_ لن نعتمد عليه وحده، فلنصنع حساءً من أوراق الشجر
_لكن القناص يرصد كل حركة والذهاب نحو البساتين فيه مخاطرة
_هي ميتة واحدة، وهل نبقى نراقب أولادنا وهم يموتون جوعاً
وبدأت رحلتهم اليومية إلى الحقول بالتناوب لجلب الأوراق والأعشاب، وفي كل مرة يعودون بإصابات من رصاص القناص كان عليهم معالجتها دون أدوات تعقيم ولا بنج أو تخدير، لم يخفف عليهم تلك الحياة القاسية إلا روح التعاون التي تحلّوا بها، تسارعت الأحوال في التدهور عندما قصفوا شبكة المياه والكهرباء، وبدت البلدة فعلاً كقبر كبير .
كانوا قد احتملوا الجوع لكن بدأت العروق تجف من العطش، إلى أن تهللت فيهم البشائر حين بدؤوا يوزعون عليهم المياه بكميات شحيحة، لكن الصهاريج كانت صدئة والمياه ملوثة، لم يلحظوا خطرها إلا عندما اصفرت أم ندى وارتفعت حرارتها ،قفز الخوف إلى قلب ندى لأول مرة، فهي ممرضة وتعرف أعراض التيفوئيد جيداً، وماإن مضى يومان على مرضها حتى سحب منها آخر رمق حياة.
_كيف تتركيني الآن ياأمي
أخذت ترددها ندى على قبر أمها بصراخ أشبه مايكون بالهمس، فقد تعب فيها كل شيء حتى حبال الصوت.
أصبح هذا المنظر اعتيادياً ،فيومياً يموت منهم واحد أو اثنان، ليتم دفنهم دون مراسم عزاء، فقد أدركوا أنهم جميعاً باتوا في عداد الموتى .
بدؤوا بذبح القطط، وعمل حساء من ماء وقليل ملح هُرّب إليهم بعناء.
ماعاد ابنها يقوى على الوقوف، وهي مستمرة في نحت الصخر لتؤمن له القوت .
إلى أن أعيتها الحيل، فقد نفد كل شيء ولم يعد في الصخر حتى مايُنحت، فتمددت إلى جانبه تنتظر الأجل .
فجأة علا صوت المكبرات ،تمت المصالحة وستعودون إلى بيوتكم
هبت من فرحتها احتضنت ابنها، وكم كانت فرحتها عظيمة عندما رأته يبتسم
_أرأيت ياغالي قلت لك سننجو ،منذ زمن لم ألمحك تبتسم ،افتح فمك لتشرب بعض الماء المملح لتصلب عودك ،وسأعوضك عن هذه الأيام
_لا يا أمي أنا شبعت ،قد جاءني أبي بالطعام من الجنة، انظري كم هو سعيد فيها
رفع يده لتترنح وتستقر من جديد إلى جانب جسده النحيل
شقت صرختها عباب بلدة الموت تلك
_ لماذا كذبتِ عليّ ياأمي، ألم تقولي لا أحد يموت من الجوع .
تمت
منى عزالدين ٢٠١٩
...................
« القراءة »
بدايةً أهنئك على هكذا مشهدية حية بامتياز، كمشهد مقتطع من رواية مفترضة، ارى ملامحها جلية تطل بعينيها خلال السطور، وتنبثق فيضًا من شعور يتدفق شلالات حزن في اوج صور التراجيديا ..مأساة امراة داخل أسرة داخل قرية داخل وطن ..وطن اقتنصته الحروب بلا هوادة، ولا هدف.
بارعةٌ أنت سيدتي الكاتبة المبدعة في تبئير عدسة كاميرتك الوجدانية، فرسمت..بل نزفت وجعًا سال مداده المدمى فأغرق قلوبنا في بحر أسى لا ضفاف له في مدى البصر وأعماق البصيرة، وأدمى عيوننا دما..من منا لم ير رؤية عين جلسة العزاء، ونظرات ثكلى حائرة، شاخصة إلى اللاشيء..ها هو زوج يمضي، وسيلحق به آخرون..آخرون لا ندري كم عددهم، ولا ندري ايهم يذهب أولا..المشهدية سوداء، والخلفية سوداء، والملابس سوداء، والهسيس أسود حالك، فلا أمل في مستقبل منظور، او نجاة قريبة، او مهرب من شرك أُحسن تجهيزه والإعداد له بفكر شيطاني تفوق على كبيرهم أبليس، فجلس مزهوًا متفاخرًا يقول فرحًا لسندته " أنظروا هؤلاء أبنائي البررة..أنظروا لعزيزي ذي الشارب الكث ونظراته الجائعة..لكم انا فخور به وبتلامذته وهم يكيدون كيدا..هؤلاء أحبائي..أطاعوني ولم يكن لي سلطانًا عليهم..هؤلاء أحبائي..يسفكون الدماء لأجلي، يغتصبون النساء لأجلي، يحرقون الأخضر واليابس لأجلي..هؤلاء أحبائي..هؤلاء أحبائي".
عجوز ثكلى..لمقتل ابنها، وامرأة ترملت لوفاة زوجها، وابن لا يعي من الفقد شيئا، ولكن أمه تعلم وتعلم وتعلم، الخيارات ثلاث لا رابع لها.
نص تراجيدي بامتياز رغم مشهديته المكتنزة إلا أنه طار بي يحملني على جناحيه المهترئين في صلابة إلى أساطير الأولين من الألياذة إلى تراجيديات شكسبير إلى طروادة وأخيل إلى حاضرٍ معاش نعيشه ونتعايش معه واضعي رؤوسنا كالنعام في الرمال، وكأن الأمر..أهواله على مبعدة منا!!
أطلت الاستغراق في المأساة وهى أكبر مني..هى مأساة جيل بل أجيال، وما أنا إلا عبد فقير عاجز!!.
امرأة ..بل نساء وإن لم يكنّ ذكورًا فهن رجالا..رجالٌ بكل ما تحمله الكلمة من معان..صبر وتحمل وحكمة وحسن تصرف ودهاء وقوة..نعم قوة قد لا نجدها في كثير ممن يبرمون شواربهم ويتفاخرون بسفك دم أبرياء..أنهم قتلة يا سيدتي..قتلة قتلة.
ومن ذي الشوارب إلى حصار البلدة وشظف العيش والقناص، رحلة أخرى أكثر مرارة وأشد وطأة، لنتنهي المأساة بوفاة أم وكثيرات غيرها، بعد ان جفت العروق ونحت الصخر وتلوثت المياه الملوثة اصلا عبر صهاريج صدئة، لتنتشر الأوبئة كما هو الحال في جميع التجمعات المحاصرة في الكثير من بلداننا وبلداتنا..ومن ثم يختتم النص بصرخة ندى الثكلى في ابنها الوحيد الصاعدة روحه للملكوت الأعلى سائلةً أمه في استغراب * لم كذبت علي يا أمي ؟ ألم تقولي ان لا احد يموت من الجوع *.
نص تراجيدي بامتياز، يلقي الضوء الشديد على مآسي الحروب والنزاعات السياسية والتي لا يصطلي بنارها إلا المدنيين، بينما ينعم مشعلوها في قصورهم الفاخرة المشيدة على جثث شعوبهم.
نص رغم تفاصيله الدقيقة والكثيرة والتي يكفي واحدًا من أحداثها لصياغة قصة كاملة مكتملة الأركان دون انتقاص، الا انها تفاصيل ساهمت بقوة في توسيع الكادر المشهدي دون تبئير الصورة، واتكأت بجدارة على تبئير المأساة ونجحت إيما نجاح.
نص مميز بوجدانيته المفرطة في قسوة، كطعنات مسددة إلى قلوبنا صارخة فينا " أنتم عجزة".
اما عن التقييم الأدبي، فلي أن أقول كناقد محايد ان الفقرة الأولى..شارحة، وتصلح لرواية وليس لقصة قصيرة، كذلك فقرة " بعض الانعطافات...إلى..يسحبك للفناء ".. هذا أقحام للكاتب غير مستحب، رغم اهمية الفقرة كقول بليغ بليغ بليغ، ومن الرائع ان تصاغ بمفردها في نص نثري مستقل..ارفع له قبعتي من الآن.
•••••••••
محمد البنا ١٢أبريل ٢٠٢٢