« من أوراق الذاكرة »
إعداد وتقديم: أ. جمال الشمري
تنسيق وتوثيق: أ. سامية عبد السعيد
•••••••••••••••••
« أوراق من الذاكرة »
الأستاذ: Nabeel Najjar
---------------
أوراقنا اليوم كتبها أستاذ كبير في ميدان القصة القصيرة
الأستاذ: Nabeel Najjar
لقصصه عبق وحيوية الحياة التي تضج بالفرح وبالمعاناة أحيانا أخرى
يكتب بعفوية وبساطة حتى أننا نتحسس حركات وانفعالات أبطاله ونعيش بين أزقة القصة وحواريها وبيوتها
معلم وقاص متمكن وناقد وداعم للحرف والفكر وأهله فهو أحد المشرفين في
« واحة القصة القصيرة »
التي رعت وطورت الكثير من المواهب التي نفخر بها الآن
•••••••••••
• مقدمة صغيرة لموضوع كبير.
تصدقون؟..لم أنتبه لصعوبة الفكرة إلا عندما طلب مني صديقي جمال أن أكتب هذه الفقرة عن نفسي!.
قلبت في الذكريات فوجدت أغلبها لايصلح! فهي ذكريات مختلفة جد الاختلاف عن ذكريات من سبقوني، هي رقص على إيقاع مختلف، ايقاع مجنون بلاشك ولكنه ايقاعي الخاص على ما أعتقد
حتى تتضح الصورة التي سترونها لابد من شرح بسيط للمكان الذي نشأت فيه.
ولادتي كانت في مدينة العشق دمشق، في حي يدعى حي القزازين، واجهته الفخمة تدعى شارع بغداد، وتحده مقبرة الدحداح من جهة وكلية الفنون الجميلة القديمة من جهة أخرى.
فخامة الشارع لاتنبىء عن الحي الذي ولدت فيه، هي مجرد واجهة فما أن تتوغل في الحي ستنقلب الصورة رأسا على عقب، بيوت طينية سحقها الفقر والجهل والجريمة.
أقل ما يقال عن البيئة التي ولدت بها أنها بيئة موبوءة، وفي ظني لولا قليل من ألعاب الحظ والقدر لما كنتم قرأتم حروفي ولكنت بقيت مثل باقي صعاليك الحي حرفياً مغموراً أتعاطى المخدرات أو ماشابه.
سأقتبس لمذكراتي عنوانين رئيسيين:
• أولاد حارتنا، وذكريات كويتب يكره اللغة العربية.
• في البداية لم يكن لي اسم!
كان من المفترض أن أسمى جاسم بالجيم المصرية فلقب والدي كان أبو جاسم، أو عبد الله على اسم جدي، من اخترع اسم نبيل وكان هذا الاسم نادراً على أيامي هو خالي وكان يريد أن يسمي ولده الأكبر مني بشهر ونصف فقط بهذا الاسم، ولكنه عندما ذهب للتسجيل سمى الرجل الذي قبله ابنه باسم أيمن، أعجبه الاسم فأطلقه على ابنه وترك اسم نبيل، وكذلك فعل والدي نسي جاسم وعبد الله واستولى على الاسم المتروك فكان من نصيبي.
• أما الألقاب فحدث ولا حرج:
يمكن القول أنهم كانوا ينادونني كلما أرادوا مني النزول من المنزل للمشاركة في اللعب: آ يا يا بيبي! أما عند الغضب فكان لقبي" بندرية"!.
الأولاد الشوام الأصليين يقولون لثمرة البندورة: بندوراية، أما نحن أصحاب الأصول الريفية فنقول:
بندرية، ورغم ولادتي في دمشق واتقاني اللهجة الشامية إلا أنني كنت أواجه أحياناً تلك العبارة الفوقية: فلاح!، أو عبارة منغمة بشكل: فلاحة نص تفاحة، هذه الألقاب كانت تطلق علينا ساعات الغضب والزعل، رغم كل محاولاتي للتماهي والاندماج.
بالمقابل كانوا يلقبونني في قريتنا كلما ذهبنا في إجازة أو زيارة: بالشامي، وهو لقب يدل على التخنث والنعومة والخراعة،. مع الألقاب احترنا يا أقرع من وين بدنا نمشطك.
في مدرستي الإبتدائيه كنت نجماً صغيراً أو ملكاً متوجاً كما يقال، لا بسبب تقليدي كما تتوقعون، بل لأن بيتنا كان الأقرب لباب المدرسة، فاعتباراً من الصف الثاني كان الأستاذ نجيب يشاركني صندويشة المكدوس، ولما علمت والدتي بذلك صارت ترسل له صندويشته الخاصة، وكثيراً ماكان الآذن أبو عارف يخرجني من الصفوف ويرسلني للبيت لأجلب له بعض السكر أو الشاي أو البن، هذه الرشى البسيطة كانت تمنحني بالمقابل حماية من كثير من العقوبات، والتقديرات الجيدة وحتى إمكانية اختياري لمقعدي بحرية.
ألعن العقوبات التي كنا نخشاها هي الفلقة، ليس بسبب الألم فحسب بل خزياً من انكشاف جواربنا المثقوبة على الملأ، وقد كدت يوماً أن أضرب فلقة لمجرد أن الأستاذ موسى وهو أستاذ كان اسمه يصيبنا بالرعب والجمود، شاهدنا نلعب بالدحاحل خلال العطلة الإنتصافية! تخيلوا حفظ وجوهنا لأكثر من أسبوع ثم أخرجنا من الطابور الصباحي ليعاقبنا بالفلقة، من حسن حظي يومها أن الآنسة ريما تحدثت معه وأخرجتني من طابور العقاب بعدما جفت الدماء في عروقي.
الآنسة ريما بالمناسبة كانت أحياناً تبيت عندنا مع أخواتي لأن بيت أهلها في قرية تنقطع عنها المواصلات أحياناً، مازالت صورتها ترتدي بيجامة أختي القصيرة عليها ترتسم في خيالي.
مدرستنا كانت للصف الرابع فقط! فغالباً ماكان الطلاب يتسربون خلال الصفوف السابقة للعمل في مهنة ما، ولايهتم الأهل بذلك لسوء الحال أو لعدم الإقتناع بجدوى التعليم أساساً، بكل الأحوال سيكمل هؤلاء تعليمهم في إصلاحية الغزالي للأحداث بعد ارتكابهم بعض الجرائم الصغيرة كالسرقة أو التعاطي، حيث كان عدد مرات الدخول للإصلاحية مجال تفاخر بين أولاد حارتنا. نادراً ما وصل للصف الخامس أكثر من طالبين أو ثلاثة إلا على دفعتي بقينا أكثر من خمسة عشر طالباً، ففتحوا لنا صفاً وكذلك فعلوا بالنسبة للصف السادس الابتدائي.
صفة مشتركة مع من سبقني من الكتاب كانت تميز مواضيع تعبيري، مع ذلك كان هناك طفل يكتب أفضل مني اسمه رضوان ولكنه لسوء الحظ كان يتأتئ، رضوان وأنا كلفنا بعمل جريدة الحائط كل سبت، خطه كان جميلاً جداً وكانت مجلاتنا مميزة، ولكن بعد مرور أسبوعين بدأنا نشكو من قلة الموارد، كانت المجلة تستنفذ مصروفنا القليل أصلاً، فتوقفنا، أحد الأساتذة أخبر والدي فضربني ضرباً موجعاً!.
ولكن كيف كنا نحصل على مصروفنا؟
بالواقع كانت عندنا طرق مشروعة وأخرى غير مشروعة لتحصيل الرزق ونحن أطفال.
في المواسم الدينية مثل رمضان والعيدين، كان يكفي أن تحفظ سورة "يس" وبعض السور القصار وتذهب للمقبرة ومعك دلو ماء، تقرأ على القبور وتسقيها، أو يمكنك الدخول إلى مؤسسة الهاتف القريبة وسرقة بعض الكبلات ثم حرقها لاستخلاص النحاس الذي بداخلها وبيعه، كذلك يمكنك الذهاب إلى بساتين العدوي القريبة وسرقة بعض الخضار وبيعها في سوق الهال..كل هذه وأساليب احتيال أخرى جربتها وكنت غالباً أتلقى العقاب بالضرب المبرح من والدي.
مدرستي الإعدادية كانت تبعد عن بيتنا أكثر من ثلث ساعة مشياً، وكانت في منطقة راقية، لكم أن تتخيلوا مقدار غربتي وضياعي، المدرسة كبيرة، الصبيان أغلبهم يأتون بالسيارة، يستطيعون الشراء من المقصف كلما أرادوا، علاوة عن ذلك كان الأساتذة يحابونهم خاصة إذا كان والدهم تاجراً أو موظفاً هاماً أو ضابطاًفي الجيش.
قررنا رضوان وأنا الهروب من المدرسة وتثقيف أنفسنا بأنفسنا لنصبح كتاباً، هربنا تقريباً لاسبوعين متواصلين، كنا نذهب للحدائق ونقرأ، أذكر أنني قرأت أيامها قصة عروس فرغانة لجرجي زيدان.
اكتشف أهل رضوان هروبنا، فجاءت والدته وأخبرت أمي والنتيجة طبعاً معروفة: ضربني والدي بجنون حتى أنني بللت سروالي.
بعد وساطات وتدخلات أعادونا لنفس المدرسة، لكن حصتي من العقاب لم تتوقف، إذ أمسكني الموجه فؤاد من شعري وضرب رأسي بطاولته فانكسر الزجاج، خاف المسكين من فعلته فأخذنا مباشرة إلى الصف؛ وكانت الحصة ـ لسوء الحظ ـ
حصة عربي وقال للأستاذ: هربا من المدرسة ليصبحا كتاباً، ضحك الأستاذ علينا وكذلك التلاميذ.
وقبل أن نجلس سألني بسخرية: ماهو عمل كان وأخواتها ياكاتبنا الكبير؟
أجبته بثقة: كان تنصب الخبر.
ـ تنصب الخبر! انتقى تلميذاً وقال له: أخبر كاتبنا الحمار ماذا تفعل كان وأخواتها؟
ردد الولد القاعدة التي حفظها صماً: كان وأخواتها فعل ماض ناقص يدخل على الجملة الاسمية فيرفع المبتدأ ويسمى اسمها وينصب الخبر ويسمى خبرها.
نظر لي شامتاً فقلت: أي حمار يعرف أن المبتدأ مرفوع أصلاً.
شتمني المدرس طبعاً وأعادني لمكتب الموجه مع رسول قائلاً بأنه لن يقبلني في حصته مهما حصل.
هذه المرة كنت قد قررت الدفاع عن نفسي فيما لوحاول الموجه ضربي: أبقيت موسي الكباس قريباً من يدي وقد قررت استعماله.
نسيت أن أخبركم أن أول خمس ليرات كان يحصل عليها الولد في حينا تذهب لشراء موس كباس " قرن الغزال" والتدرب على فتحه بسرعة والتشطيب به، وأنا كنت من ذلك الحي وقد تدربت جيداً على فنون التشطيب.
بكل الأحوال لم يحصل شيء مما فكرت فيه وأخذني الموجه لصف آخر على أنني طالب جديد.
ظلت فكرة ترك المدرسة تلح علي كل فترة، وكنت أتلقى العقوبة المناسبة كل مرة، ولكن عندما اصطدم والدي بتصميمي عقد معي اتفاقاً، بأن أحصل على الشهادة الإعدادية وبعدها أفعل ما أشاء، وقد كان.
حقيقة أمضيت فترة التحضير للشهادة الاعدادية في مؤخرة سيارة نصف نقل معطلة ألعب الشطرنج، كانت لوثة الشطرنج قد سيطرت على الحارة، وكنا نلعب على مبلغ معين يدفعه الخاسر، تحولت هذه اللعبة النبيلة مثل غيرها الى لعبة قمار، وكافة ألعابنا كانت تتحول بهذا الشكل: كنا نقامر بالمياه الغازية والصبار والورق ولعبة السهام وبنادق الضغط.
استعان والدي لإقناعي على الاستمرار بالدراسة بابن عم له، كنت أحترمه جداً، فقد كان متزعماً لحزب الناصريين في ريف دمشق، تعرض للملاحقة بعد الإنفصال فهرب إلى السعودية، وكان شخصاً مثقفاً جداً، شرح لي أن قطار تعلم مهنة قد فاتني خاصة أنه لم يبق أمامي إلا ثلاث سنوات وسيلحقونني بالخدمة الإلزامية، فتح لي ذلك الشخص مكتبته وأعاد لي شغف القراءة من جديد، جعلني أدمن بشكل ممنهج على القراءة في حين أدمن نصف رفاقي على الحشيش، كنت أقرأ كتبه التراثية والسياسية ونتناقش بها فتنير نظرته الناضجة بصيرتي الطفولية وتسحبني قسراً من ميادين الصعلكة إلى ميادين الفكر الرحبة.
أوقعني سوء حظي عند الأستاذ دك الباب في صفي العاشر والحادي عشر، وكان مقررنا أيامها دراسة شعراء الجاهلية والأموية والعباسية، وكان يتوجب علينا حفظ خمسة أبيات من كل قصيدة، فإذا حان موعد التسميع وأخطأ الطالب أول غلطةهز دك الباب رأسه، الغلطة الثانية سيقول: وسط، أما الغلطة الثالثة فسيهتف: صفر أدخل.
كنا نحييه وندخل إلى مقاعدنا، وكنا نسأل بعضنا عن النتائج فنقول: سبعة صفر، أو ثمانية صفر لصالح دك الباب.
في الجامعة أخيراً تخلصت من وجع الرأس الأدبي والتفت للقراءات السياسية والإقتصادية والإجتماعية، أما الأدب فقد اقتصرت على شعراء المقاومة وقليل جداً من الروايات الرائجة والتي أثارت بعض الضجة.
بالحقيقة أنا عندما أكتب الآن فأنني أكتب بالسليقة ولازالت كتاباتي تعج بالأخطاء نتيجة لكرهي لقواعد هذه اللغة التي تغيبت عن معظم حصصها.
كذلك فأنا مازالت اتعجب من نفسي لأنني وبعد كل تلك القطيعة مع الأدب أصرف وقتي كله لكتابة القصة القصيرة، وأتعجب أكثر عندما يعتبر الآخرون كتاباتي جميلة وذات قيمة!.