زمرة الأدب الملكية

ما أكثر الأقلام إن فتشت محصيها،، فيها العلم وجلها غثاء من حطب،، وريشة الفهم إن جئت تطلبها،، فدواتها نحن عرين زمرة الأدب..

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

« أمام الستائر المسدلة » _ بقلم: د. فرج ياسين


 



أسبوع د. فرج ياسين 


النص الأول



 «  أمام الستائر المسدلة » 




مست المرأة حاشية غطاء المائدة ، وأمالت رأسها قليلاً ، متيحة لأحد أعمدة المطعم شطر قامة فتاة شقراء إلى نصفين ، اختفى أحدهما بينما جعلت  تسارق نصفها الآخر نظراً فاتراً . 


قال الرجل : لقد كفت لتوها عن الرقص .


أطلقت أصابعها ، ونفضت حاشية غطاء المائدة ، ثم مدت عنقها شاخصة إلى أمام . كانت تقتعد مكاناً مقابلاً لنافذة تنسدل ستائرها الغامقة الخضرة ، في تثنّيات عمودية متدرجة . وجلس الرجل قبالتها مستقبلاً الأضواء والضجيج . بينهما خوان مربع خال إلا من قدحين مملوءين ، وزهرية من الكريستال ، ظلت فارغة حتى أقبل النادل ، فغرس فيها قبضة من الزهور الاصطناعية . ولما شاهد الرجل امتعاض زوجته طلب إليها - لأول مرة - الانتقال من المكان الذي اتخذته أمام الستائر المسدلة . وفكر بأن الفرصة قد لا تتاح له للطلب إليها مرة ثانية خلال السهرة ، لذلك فقد استغل وجود النادل ليشير إلى المقعد الذي إلى يساره قائلاً : إن ذلك سيمكنها من مشاهدة قرابة ثلث المكان بأضوائه وموائده وفوضاه . فضلاً عن أنه سيجعلها تراقب جزءاً كبيراً من حلبة الرقص .


لكن المرأة قالت : لا .


بعد ذلك بزمن ، شرع الرجل ينظر باتجاه واحد إلى أمام . الزبائن المرحون يدخلون من الباب اللولبي ، ويتفرقون على الموائد . يصخبون ويجادلون الندل ، أو يتحاورون من بين سحب الدخان ، ثم ينهضون للرقص ، تميد الأجساد اللدنة ، وتشتجر السيقان الطوال ثم تنفرج ، يقفزون أو يثنون ركبهم ، ثم يعاودون النهوض ، وكان ينظر إلى كل ذلك فقط . ينظر ويدخن ! وفي مرة أو مرتين أحس بأن المرأة كانت تمد عنقها متسقطة الأصوات التي تتناهى إلى مسامعها من الصالة .


قال الرجل : كنا سنأتي إلى مثل هذا المكان ذات يوم .


رفعت عينيها في الفضاء الداخن الذي بينهما ، وزمّت فمها ، كأنها تتستر على حروف محرمة ، كانت ستمضغها متأنية قبل أن تجازف بنطقها في وجهه .


•- نعم ذات يوم !


فرقَّ الرجل لطريقة أجابتها . قال :


•- لقد فكرتُ كثيراً بذلك وأنا هناك .


شرعت المرأة تمد يدها إلى الكأس ، فطوقته بأصابعها ثم استرسلت قائلة :


•- وهل أتاحت لك رائحة البارود ذلك ؟


•- أجاب الرجل : أجل ماذا كنا سنفعل في أوقات الفراغ .


أجابتها الناعمة الهمتة الإصغاء إلى الموسيقى الراقصة بروح مختلف قليلاً ، واستمر ورود الزبائن ، فيما ظل النادل وحده يظهر أمام عيني المرأة بين الفينة والفينة .


قالت : مرة عرض علي الذهاب إلى مطعم السمكة ولكنني رفضت . هل تذكر ؟ أما كنا سنذهب إلى ذلك المكان بعينه ، أنا وأنت . أستنشق رائحة العصير ، ثم أطبق بشفتيه حول الحافة الزجاجية ، وأعاد الكأس إلى مكانها فوق المائدة .


•- السمكة . يا للمصادفة ! كيف لي أن أنسى . متى كان ذلك ؟ قبل زواجكما أم بعده .


•- لا . كان ذلك بعد زواجنا بأيام قليلة . وأيضاً بأيام قبل أن يذهب إلى هناك !


الأصوات الصاخبة انفرطت في مسامعه ، حامت مدوية ثم كفكفت صخبها ، واندحرت متلاشية حول قوائم الموائد المتقدمة . وما عاد يرى غير وجهها تحت المصابيح الحمرباهتة الإضاءة .


وجه صغير ، بشفتين غليظتين ، وحاجبين غير مزججين ومظلة صغيرة من الشعر تستغرق الجبهة كلها .


ولبرهة لم تعد سيقان الراقصين توقع نقلاتها الجديدة ، عائمة في رقاق متوالية من دخان اللفائف المستمر .


•- قلت لنفسي ، ربما بعد تجاربنا المختلفة ، سنقوى على أن نفعل الأشياء التي كنا نحلم بها .


قطعت المرأة نظرتها المختلسة الجديدة ، إلى العمود ثم قومت عنقها وشخصت إليه:


•- أتعني ما تقوله حقاً ؟


•- ولم لا . أو ما تقصدين ذلك المطعم ؟


•- بلى لأنني لم أره مطلقاً ، لا معك ولا معه . لقد قدر لي أن أحلم به فقط !


وخشي أن يقول لها أنه ذهب للبحث عنه فلم يجده في مكانه . ثم جد في البحث عن اسمه في الواجهات والألواح البرونزية ، وخلف بريق لافتات النيون في العمارات الشاهقة . غير أنه لم يعثر على الاسم . ما عادت الأشياء تسكن أسماءها !


ومع ذلك قال لها باسما : لسوف نذهب إليه ذات يوم .


ورأى الراقصين كرة أخرى . ثلة من الشباب والشابات الصغيرات المتبرجات . راقب أجسادهم وحركاتهم ، وصرخات المرح الناعمة . انسل في دمه عطرهم الفاغم وأنفاسهم العبقة . كان سيفعل الشيء نفسه ، قبل حفنة من السنين وكانت ستكون إلى جانبه فتية مرحة وفاتنة . لكنه انتبه لأول مرة إلى ساقه الممدّدة إلى جانبه ، فمس فخذه وربت على ركبته اليابسة ، ثم اهتز شيء ما في نفسه . خيل إليه أنه سينجح في القفز إلى الحلبة . ويبدآن الرقص . وإن الراقصين من الفتيان والفتيات سوف ينحون سيقانهم ، ويندحرون ذاهلين وراء الحلبة .


ثم استل سيكَارة ، أرثها ، ومج الدخان في الهواء قاطعاً الطريق على آخر لقطة من اللوح الراقص كانت ستنفذ إلى عينيه .


ومع أن الساعة كانت في معصمه إلا أنه أراد سؤالها عن الوقت فقال لنفسه : لابد أن الساعة الآن هي الحادية عشرة والنصف . وفكر بالطلب إليها مجدداً الانتقال إلى المقعد المواجه لجزء من الصالة . إذ سيتاح لها مشاهدة الحلبة والراقصين ولكنه قطع بأنها سترفض طلبه . وهمَّ بأن يسألها عن سبب عدم إنجابها طفلاً من زوجها الفقيد فأيقن أنها ستجيبه قائلة أنه استشهد بعد دخوله بها بشهرين فقط . وحام في خاطره لفت نظرها إلى أنهما - هما الاثنان - لم يتذوقا قطرة واحدة من الكأسين الممتلئين اللتين أمامهما ، فصدّه أن ما في حلقة من المرارة لا تفنيه رشفة عابرة . فكيف بها وود لو يعرب لها عن رغبته في النزول إلى الحلبة ، يأخذ بيدها ثم يقوم بمخاصرتها أمام الناس. ولكنه قال لنفسه : عجباً ومن أين ستأتي بساقك الأخرى ، التي تناثرت عظامها هناك على أرض المعركة !












عن الكاتب

زمرة الأدب الملكية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

المتابعون

Translate

جميع الحقوق محفوظة

زمرة الأدب الملكية