« كواليس القهر »
كلَّما دنوتُ منه كان يجثو على ركبتيه معلناً استسلامه دون أدنى مقاومة، كان بفعله ذاك يهدم آخر جدارٍ للصَّبر كنتُ ادّخرتُه خلال سِنِيِّ القهر والظُّلم.
أنفاسه اللَّاهثة كانت تخبرني كم مضى عليه من الزَّمن وهو يجتاز مساحة الخوف قبل أن يقع بأيديهم.
- قم يا بنيّ فلن أؤذيك.
- لست أنا، لست أنا، أنا بريئ.
- ومن قال غير ذلك؟
- هم. إنهم وراءَك يريدون قتلي.
- من هم ؟!
- لا تخبرهم بأني هنا، أرجوك.
- لن أخبرهم.
- هل رأيت رفاقي؟
- من؟!
- كانوا هناك عندما التفّوا حولنا، وفاجؤونا بالرصاص.
- هل كنتَ معهم؟
نظر إليَّ نظرةَ المتفحِّص المُرتاب دون أن ينطق بحرف.
كانت ذراعه لا تزال معصوبةً كأنَّها تريد إخباري بأنَّها كانت يوماً ما موجودة، ورأسه الأشجُّ يُنبِينِي عن حجم الألم والمأساة.
جثوتُ أمامَه مستعطفاً رَوعَهُ ليهدأ، وفجأةً انتفضَ كالطّير المذبوحِ راكضاً على غيرِ هوادة، وهو يصرخ ويصِيح:
اتركوني، اتركوني، أنا لم أعد هنا.
>>>
لم أنم تلك اللَّيلة رغم ما كنت عليه من الأرق.
ظلَّ شبحه الهارب أمامي يلاحقني في أزقَّة الليل الضَّيقة المظلمة. كانت مساحة الحلم صغيرةً جدَّاً. حاولت التشاغل ببعض الذكريات الجميلة التي كانت قد أفلتت من عِقَالِ الزَّمن، ولكن دون جدوى. شيءٌ ما كان يقف في منتصف الحلم، مبهم الملامح، مجهول الهويَّة، ولافتةٌ كبيرةٌ كُتب عليها: ممنوع العبور.
- قف. من أنت؟
- عابر.
- الهويَّة؟
- فقدتها في الزَّحام.
- جواز سفرك؟
- لا أعرف عمَّا تتحدَّث.
- هل معك تصريح؟
- لا.
- إذن كيف وصلت إلى هنا؟!
- الأموات لا يحتاجون إلى تصريح.
>>>
كانت أشعة الشمس قد تسللت من شقوق النافذة الخشبية عندما صحوت على صوت جارنا وهو ينفجر بالصراخ على أولاد الحارة بصوته الغاضب الأجَشّ.
انتفضت من فراشي وخرجت مسرعاً خشية أن يكون أولادي في الشَّارع:
- لعنة الله على هذا الجيل. بلا تربية، بلا أدب ، بلا أخلاق.
- هدِّئ من روعك يا أبا محمود، إنهم أولاد.
- كناَّ أولاداً.
- صدقت، لم نكن مثلهم.
- هل وصلتك أخبار الشباب؟
- تقبلهم الله.
- اللهم آمين، اللهم آمين.
اتكَأَ على ذراعي مستعيناً بها حتى جلس على كرسيه المتحرك بعد أن قمت بتعديله له، ومضى دون أن يلتفت.
>>>
صعدت أم خالد الدرج المتهالك بخطىً ثقيلةٍ كأنها الأيَّام، كلُّ خطوةٍ كانت تُنبِئُ عمّا تحمله هذه الخمسينية من وجعٍ وقهرٍ ومهانة. كلُّ درجةٍ كانت عمراً من الذُّلّ، وكلُّ تنهيدةٍ كانت جبلاً من الصّبر. هناك خلف الباب كان زوجها يمسح آخر ما تندَّى من عينيه الكفيفتين،كانت النُّدوب حولهما تحكي روايةً قديمة، حين كان الصَّباح مشرقاً يوماً ما:
- هل ذهب؟
- أخيراً.
- ماذا قلت له؟
- وعدته بأن أشتري له واحدة جديدة.
- ولكن.
- أرجوك، المهم أنه ذهب. هل أكلت؟
- كنت أنتظرك.
>>>
لحظةٌ من السُّكون مرَّت، كان الطَّريق قد خلا من كل حياة، ما عدا ضجيج عجلات كرسيِّ أبي محمود، التي راحت تعزف على الحصى سمفونية القدر لبيتهوفن، ثم ما لبثت أن تلاشت شيئاً فشيئا. كنت أراقبه بفضولٍ وانبهار حين اختفى في الزُّقاق المجاور.
شريطٌ من الذِّكريات مرَّ على عجل. شعورٌ لا إراديٌّ بالحنين كان يسري في جسدي المرتعش، لم أعرف لمن أو لما، ولكنِّي كنت ما زلت أستمتع به عندما أغلقت الباب ورائي.
>>>
داهمتني رائحة القهوة وهي تتسلل في الدهاليز والممرات الضيقة ، كحلمٍ جميلٍ مسافرٍ تحت جنح اللّيل مغافلاً عقارب الساعة. سرعان ما أيقظ عبقها علبة السجائر التي أمضت ليلتها نائمة في جيبي.
كانت شرفة المنزل تطل على شجرة الأكاسيا الوحيدة المتبقية في الحي، والتي ما زالت تعاني آثار الحروق التي خلفها القصف.
ثلاثة فراخ كانوا يحاولون التحليق للمرة الأولى، وأمهم تطير ذهاباً وإياباً على مَرأىٌ منهم غير مبتعدةٍ عن حدود رؤيتهم. وعلى الغصن المقابل كانت هناك بقايا طائرٍ خامس، ما زالت عظامه عالقة في البقعة السوداء.
>>>
نصف ساعةٍ مضت كانت كفيلةً بأن تلفظني إلى الشَّارع مجدَّداً.
- متى سترجع اليوم؟
- كالعادة.
- لا تنسَ الهدية.
- أجل أجل.
- هل قررت؟
- سأجلب له ما يريد وأمري إلى الله.
- هون عليك.
- أنتِ تدرين.
- أعلم ولكن.
- لا عليك، وعدتك أنِّي لن أتركه يشعر بالنَّقص أمام زملائه.
- أحبك.
- وأنا أيضاً.
>>>
بَدَت المسافة إلى العمل أميالاً من القهر، وسنيناً من الذُّلِّ والشَّقاء، أقطعها بجسدٍ خاوٍ على طريق الصَّبر الطَّويل.
ما زالت روحي هناك خلف جدران الواقع، تحاول التَّعلُّق بأوَّل حافلةٍ تُقِلُّها إلى المحطَّة التَّالية.
باب المصنع كان عالياً ومنيعاً كجدار برلين، يقف أمامه نازيٌّ أحمق:
- لماذا تأخّرت؟
- لم أجد واسطة نقل.
- ليست مشكلتي.
- مشكلة من إذن.
- أنت.
- وماذا الآن؟
- لا شيء، ابحث عن عمل آخر.
- أين؟!
- في بيتك.
>>>
دخلت ذلك المكتب المشؤوم الذي رضعت جدرانُه رطوبَتها من عرق أجسادنا المنهكة، حاولت أن أجمع أغراضي وأمتعتي قبل أن أغادر المكان.
كانت الأشياء مبعثرةً هنا وهناك، على الرُّفوف الخشبية التي نهشتها الجرذان، وفي الدُّروج الصَّدئة التي بالكاد تفتح. وعلى الرفوف، وفي الزوايا المهملة خلف المقاعد والكراسي المحطمة.
كانت السَّاعة تعبر فراغها العاشر حين توقَّفتُ عن البحث، فلم يكن هناك ما يستحقُّ أن أستردَّه من هذا المكتب البائس، سوى قراري.
حزمته في حقيبتي، وغادرت دون رجعة.
•••••••••
بقلم: ياسر كيالي