« طريد الشروكي »
أي نعم اسمي يحتل ترويسة أكبر صحيفة في البلد،ولكن أين قلبي في هذه الترويسة؟
لا تقل أنه سؤال غبي!
يا له من قلب قاس،خاتلني،غادرني في البحر الغويط،دوخه العقل في دوامات المصالح،وحتى الآن لا أعرف من الغادر ومن المغدور؟!
سامحني أيها المبتلى بقراءة هذه الورقة،فأنا- الآن- لا أركب "الشروكي"،دقائق وتجدني فيها،وتنتهي كل هذه الهواجس،فاليوم عندي ميعاد مع كذا وزير.
يا عم خلاص لا تلحس نافوخي!!
ألا ترى أن بداية القصة لا تنبأ بالمتعة؟!
فما معنى أن أبدأ من حيث ما انتهت بي الدروب؟
أقيمة الجنيه- الآن- تساوي قيمته منذ ثلاثين سنة؟!
لا تظن بي الشطط،وحتى لا أطيل عليك الانتظار؛استثمرت أموال أخوتي المغتربين،اشتريت بنطلونات وقمصان لزوم الوجاهة،استهلكت أحذية كثيرة سعيا وراء أصحاب الياقات الرسمية،زهور ودعوات على العشاء،أنفقت الوديعة ومازال مستقبلي على كف عفريت،وعفريتي لا يدين بالولاء لأحد.
المهم سافرت أيام وارتحلت ليال،ألححت في المساعي وبيدي قلم؛آه ..ما أشقى القلم بصاحبه!! وتتالت الصفقات.
لا تقل أني أجلد ذاتي كما تدعي بعض المدارس النفسية الحديثة،فهذه الحيلة كثيرا ما ألجأ إليها في أفتتاحياتي لتزيين الواقع،وهم يدركون ذلك جيدا،فيزيدون لي العطاءات.
على فكرة ..أنا غير مطالب بالتبرير،"أبوي" زمان ألف كتابا عن الناس،بالطبع توقعت- أنت الآن- مصيره،فما فائدة الاستطراد أذن؟
كتب- يا سيدي يا مستعجل-عن الفقر والأمية والمرض،هأ..هأ..أليس هذا هو الثالوث المقدس في نشرات هيئة الأمم؟!
حفيت أقدامه على دور النشر ،يومها انبهرت بوالدي،وما أيسر الاندهاش!!
لم يجد كتابه ورقا في دور النشر،أدركت لحظتها قواعد اللعب.
ما لهذا الصداع اللعين يطاردني،يربكني،أأسدل الستار عن هذا الحكي؟
شهيتي- عموما-مفتوحة لدلق مياه الذكريات:
في قريتي أرض كانت لأبي،يغازلها وتغازله،ومشاريع ثأر نفذت،وأخرى تصعد عربة الأحكام بعد أن تخطت جسر الاتفاق المبدئي،ولن أقول أنني طريد إحدى هذه المشاريع كما تتوقع الآن.
ولكن في صدري طوفان سيغرق الجميع،فالأهل نهبوا الأرض،وباعوا الزرع دون مبرر،ربما لأننا كنا أطفالا وأمي غريبة عن البلد،قال إيه من بلد بحري،مدن السمك والبحر،براري الفسفور والمايوهات،صحيح أمي حلوة وتقاطيعها مشربة بالحمرة،ولكن أبي تركها في عز شبابها أثر أزمة ربو،سكر،صداع كالذي فيه أنا الآن؛ما رأيك في هذه الدراما؟
فأنا- في لحظة التوهج هذه- أفضل من سوفوكليس!!!
نصبوا لأمي مشانق العفة،وأمست حديث السهاري ولبانة السمر،تجد الواحد فيهم طويلا عريضا ولا يتورع عن التعريض بأمي زوجة الأمام،ويترقب الأمام مروره من دار الحساب.
وخطيب الجامع فرغ من الحديث والفقه وأفرد لأمي ثلاث خطب؛إحداها عن "البكر والثيب"،والأخرى عن "الأرملة والحرمان"،والثالثة عن "هتك المحارم ما بين الشك واليقين" يومها ما فهمت شيئا!
وربابة عم"ناقم"لم تبطل نعيقا؛أرجو أن تعذر ليتلوين كلماتي بصبغة شعوري الآن.
دثرتنا بردائها الفضفاض،وتقهقرت بنا إلى أهلها،تماما كالأفلام العربية،استغل أعمامي الفرار واقتسموا الإرث،والدي كان طيبا،ولكن هكذا حال الدنيا!!
لا تطلب مني أن أختصر الرواية حفاظا على وقتي الثمين!!
ومهما ركبت "الشروكي"فلن أتنازل عن الحكي!!
والآن دعني أغفل برهة ،عيناي مغمضتان،جيد،الموسيقى هادئة:
"ياه..تلصصت خلف الحارس،ألمح صغيرا وبيده كتاب،يخط الحارس فوق السبورة:
ذعن
صراخ الولد تتضح معالمه،فرقعات وطنين،أجرب الاقتراب،انفجار هنا وهناك،تنحرف قدماي مذعورتين،بال الولد في بنطلونه،عن اليمين والشمال شواهد،تتزلزل الساحة،انكفأت على وجهي.
وجيب الولد ينغلني،أقاوم،تُبعث أشعة الشرر من جسد الحارس،ثاقلني الوقت،أخيرا يبتعد الحارس،يخبو وميضه،أمسك يد الوليد،لا يتزحزح:
يهديك..يرضيك.
يتشبث بالأرض،أحمله قسرا."
والآن دعني أستيقظ ،لا تسب السينما التي شعوذت رؤيتي.
سامحني يا ذوق..فاكر سيد سامحني؟!
بالطبع تتهمني بالخبل وتداخل الخطوط،ولك تأكد أن مقالة الغد ستزيل هذا اللبس!
فهذا السامحني يا خليلي- لاحظ أنني أتودد إليك- بائع كبده،في قلب عربته صينية الكبدة وأسفلها موقد البوتاجاز،وكان صديقا لي ،سنوات لم تعهد بطني غير طعامه،أي نعم جلبابه ممزق ولكنه نظيف.
استأذنك في قراءة بعض مواد الصحيفة لإجازة نشرها،فنبدأ بالحوادث:
القبض على بائع كبدة الكلاب بروض الفرج.
أشعر بمغص شديد،حل الدور عليك لتذهب بي إلى الطبيب.
تمت بحمد الله
••••••••••
عصام الدين محمد أحمد