موضع قدم بين الحداثة وما بعدها
قراءة بقلم / محمد البنا
لنص « السجين رقم ٦ »
للأديب الفلسطيني / جمال الخطيب
.....................
النص
« السجين رقم ٦ »
اسمه قاسم أو عبد الكريم ، وربما زكريا، وقيل ان اسمه محمود ، طارده الكابتن (بلاك ) الإنجليزي على طول الجليل في قرى ترشيحا وشِعب حتى مشارف يعبد، يقال انه احب زينب ابنة الشيخ سلمان بالتبني، ولم يشعر بلسع الجمر تحت قدميه الحافيتين حين مشى فوق رماد الموقد صبيحة ذلك اليوم، وعندما أخبر الشيخ معلم المدرسة بالقصة سماه ( العاشق )*..تركه غسان كنفاني ينتظر في إحدى زنازين سجن عكا ..ولم يكمل الحكاية.
تسكن الأسماء حيطان الزنازين الإسمنتية الشرسة، ولا تكترث بالزمن، يحفرها اصحابها غائرة بملعقة طعام أخفوها في ثيابهم، تراقب من يدخل، تقول له اطمئن، نحن هنا، تقفز أمامك فجأة، وهكذا أصبح قاسم سجين الزنزانة السادس، هو يعرف المكان والجذور في التراب أكثر، ويعرف رمل البحر القديم، وكان باطن الارض متواطئا يفتح قلبه الصلد .
الأرض بكر في الخارج حتى حدود البحر ومرج ابن عامر، يتسلق العوسج شقوق الصخور العنيدة، وتنتشر رائحة الزعتر الحارق على جنبات دروب الماعز الضيقة في شعاب جلبوع حين تدوسها حوافر فرسه المتيقظة سنين المطاردة الثلاث، تواطأت الأرض معهم وفتحت لهم في بلاط الزنزانة ثقبا.
قفز قاسم او عبد الكريم او محمود او زكريا - أياً كان- عبر الثقب ..كانت زينب تهم بالهروب من أمامه خجلا حين رأى وجهها، وكانت جميلة، وكان الشيخ سلمان ما يزال واقفا على عتبة الدوار يراقب قدميه الحافيتين وهي تدوس رماد الجمر المختبيء، ترنو اليه الفرس بحب، تهمهم: أن الوقت لم يحن بعد .
تطاول العوسج في الشقوق، وامتلأ الجو برائحة الزعتر الحارق، أخبرته أن الكابتن (بلاك) ما زال يبحث عنه، وأن الطرق الجبلية الضيقة الى الجليل وحتى جنين تحت العيون، وان عليه ان يكون حذرا.
يقف الزمن على صهوة حصان، يملأ رئتيه هواء البحر الرطب القادم من الغرب، ينحني بجسده على عنق الفرس في الظلام، يصبحان جسدا واحدا، يبدوان كائنا خرافيا يخب على أربع، تسكن الأسطورة مخيلة الناس، يتوجس أعوان الإنجليز عند سماعها.
يهمهم، لم يحن الوقت بعد، ينزله عن ظهره، يشم شعره، يداعب عنقه بأنفه، يدفعه برأسه بين كتفيه إلى الأمام، ويودعه .
يحدق قاسم في الأسماء الغائرة على جدار الزنزانة، كانت خمسة، ما تزال محفورة هناك.
يترك كنفاني قاسم في سجن عكا، يخبره ان الكابتن بلاك لن يبقى طويلا .
يغمض عينيه ويعود إلى الجدار .
......................
جمال الخطيب...بيت لحم / فلسطين
....................
« القراءة »
ما طالعته منذ لحظات كان نصًا قصيرًا ينتمي لجنس القصة القصيرة، مع ميل خفيف لجنس القصة القصيرة جدا، من زاوية الترميز ودلالاته، وكثرة الصور البلاغية ومدلولاتها.
النص اقتبس موضوعيته تأثرًا برواية العاشق ل/ الكاتب الفلسطيني المناضل الراحل / غسان كنفاني، ولا غرو أن مبدعها هو ايضًا فلسطيني الهوى والجنسية والمقام والسكن ( بيت لحم ) فك الله أسرها، وأزال عنا وعنها غمة الاحتلال الغاصب.
واعتمد أيضًا حادثة الهروب الشهيرة من سجن جلبوع، حيث تواترت الأخبار عن هروب ستة مناضلين من سجن جلبوع شديد الحراسة، خلال نفق حفروه بمعالق تستخدم عادة لتناول الطعام، فشكل الكاتب مزيجًا بين ما تأثر به من قراءته لرواية العاشق- قاسم / الشيخ سليمان / زينب / الفرس- وما وقر في قلبه من شجون إثر هروب المساجين الستة، ومن ثم القبض عليهم مؤخرا.. ما تناولته فيما سبق هو تقدمة بسيطة لمحتوى النص وفكرته، واللتان أراهما - عن يقين- نصًا مستقلا قائما بذاته، يقرأه المتلقي العادي ويعبره بمتعة طفيفة لكنها موجودة ومؤثرة، ويتوقف عنده القارئ النخبوي متأملًا وشاحذًا ذهنه للإبحار بين أمواجه ( فقراته العشوائية)، وغائصًا بأدواته الثقافية تحت السطور وخلف الصور البلاغية المشهدية، علّه يتعثر في بعض لألئه المختفية كنجوم تومض لحظة وتخبو لحظات، أما الناقد الحصيف فمهمته مع نص كهذا الوقوف على جماليات النص ومدى جودة المزج بين القديم ( العاشق ) والجديد ( الهروب الشهير )، ومن ثم الولوج إلى كيفية انشاء النص ( البنية الهندسية) والتقنيات التي اتكأ عليها القاص ليبلور فكرته منتجًا نسيجًا سرديًا محكم الحبكة ممنطق القبول الذهني لدى كل من القارئ العادي والنخبوي والناقد...هنا وهنا فقط يمكننا أن نقيم نجاح النص من عدمه.
فماذا عن الفكرة ؟..الفكرة..رحلة هروب لسجين.
وماذا عن البنية السردية ؟..البنية السردية اعتمدت على اقتباس اسماء شخصيات من مورد قديم، ومزجها تقمصا وملامح بادماجها في حدث حديث، فقاسم شخصية اسطورية ( يمشي خافيا فوق الجمر/ ينصهر مع حصانه ليشكلا لوحة ليلية اسطورية فريدة/ مقاوم ومحب/ أرهق المحتل سعيًا للقبض عليه حيًا او ميتا، في تناص جزئي مع المناضل الليبي عمر المختار ) أتى بها الكاتب من القديم ليضعها تقمصًا جسدًا وروحًا بديلًا عن أحد الأبطال الفارين الستة في الواقع الحديث، لذا عنونه بالسجين رقم ٦ فهو سادسهم وعلى حائط الزنزانة خمسة اسماء، وسكت عن السادس لأنه هو إحلالًا أو حلول، وفي تخريج آخر أن الخمسة ابطال، وأنه شخصية أسطورية ممتدة الأثر لأجيال وأجيال فالاسم هنا مجهول معروف، لا يكتب ولكن يُحس ويُعاش خالدًا ( الجندي المجهول)، أما زينب الأنثى فهى رمز الخصوبة والتمدد الأفقي عبر الأرض المسطحة، والرأسى عبر الزمن، اما الشيخ سليمان فهو الملاذ الآمن، ورمز النضال الخفي لكبر سنه، وصانع الأسطورة تمجيدًا وإكبارًا لعظماء المقاومة( تبني ابنة شهيد/ أخبر المعلم أن قاسم يمشي على الجمر حافي القدمين/ تناص جزئي مع الشيخ أحمد ياسين )، والفرس..في مشهدية خيالية نوارنية أسطورية (يصبحان جسدًا واحدا، يبدوان كائنا خرافيا يخب على أربع).
ونأتي الآن على تقنية الأنسنة، فقد أنسن الكاتب الأسماء، الارض، والزمن، والحصان، العوسج (تسكن الاسماء/ تواطأت الارض معهم وفتحت لهم ثقبا/تنزله عن ظهره/ يقف الزمن على صهوة حصان/ تطاول العوسج في شقوق الصخور)، وكلها لها أهدافها كصور بلاغية مجازية او كناية أدت المراد منها بكفاءة كأحياء ناطقين.
وتقنية اخرى ..التدوير، بدأ النص في الزنزانة وانتهى على نفس المشهد الأول في الزنزانة، وما بينهم استدعاء من الذاكرة ( الفلاشباك).
وتقنية أخرى مخفاة، فمن منا لم يشعر ويحس ان الكاتب كان يخاطبه بكل حرف دوّنه، وليس فقط ساردًا بضمير الغائب كراوٍ عليم.
كل هذه التقنيات قفزت بالنص من الكلاسيكية إلى الحداثية معطرة بقليل من ما بعد الحداثة ( الاعتماد جزئيا على المشهدية، وهو موضع أراه تجاوز الحداثة ولم يبلغ ما بعد الحداثة..أي موضع قدم بينهما.
أما عن الصور البلاغية وهى ما دعتني - لكثرتها- إلى قولي أن النص من جنس القصة القصيرة مع ميل خفيف نحو القصة القصيرة ( الرمزية / الصور البلاغية/ تاويلاتها)..
تسكن الاسماء حيطان الزنزانة
يتسلق الوسج شقوق الصخور
توطأت الأرض معهم وفتحت لهم ثقبا
يقف الزمن على صهوة حصان...وساتوقف قليلا عند هذه الصورة ودلالتها..إذ توحي بقوة بتوقف الزمن منذ بدء الاحتلال/ على صهوة حصان..والحصان دالة سرعة وقوة وشموخ كمناضلي المقاومة، وايحاءًا ببدء الزمن تقدمه لحظة التحرير من المحتل الغاصب، وما بينهما زمن جامد أسود قاس، كندبة سوداء( الاحتلال) في جسد نوارني شفاف ( فلسطين الحبيبة).
••••••••••
محمد الينا ٢٨ مارس ٢٠٢٢